شهد الدور الاقتصادي للدولة، إبان العقود الأربعة التي أعقبت أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، توسعاً غير طبيعي أدى إلى هيمنة القطاع العام على أنشطة اقتصادية كثيرة، وذلك بعد أن تبنت غالبية دول العالم الفكر الكينزي الذي يدعو إلى دور فاعل للدولة في توجيه النشاط الاقتصادي، وعدم التوقف عند حدود تنظيم هذا النشاط فحسب. وقد ذهب عدد كبير من الدول وخصوصاً النامية إلى حد المغالاة في هذا الدور، إذ حلت الدولة محل الأفراد والمنشآت الخاصة في توفير معظم السلع والخدمات ذات الطابع الاقتصادي.
فشل الحكومةومع تضخم حجم القطاع العام وترهل مؤسساته وانتشار ظواهر البيروقراطية والفساد الإداري والمالي وتدني كفاءة الأجهزة الرقابية، تدهورت جودة السلع والخدمات التي يوفرها هذا القطاع الاحتكاري بطبيعته، كما قلت كميتها بالمقارنة مع حجم الطلب المتزايد عليها، وبفعل تشعب وظائف الدولة وغياب الشفافية والمساءلة وإهمال مبدأ الثواب والعقاب، وإسقاط معايير الكفاءة، فقدت الحكومات قدرتها على التصدي لواجباتها الأساسية وفي مقدمتها عملية التنظيم والتخطيط والإشراف والرقابة على النشاط الاقتصادي في البلاد، كما تدهورت قدرتها على توفير السلع والخدمات التي تعد من صميم اختصاصها. وقد أثبتت مؤسسات الدولة، إلا في ما ندر، عجزها عن تحقيق الأهداف المنوطة بها وتأكد فشلها في إدارة وتطوير عمليات الإنتاج وآليات التوزيع بسبب غياب المنافسة وتباطؤ دورة القرار البيروقراطي وغياب المعايير الموضوعية للمحاسبة وتقييم الأداء وتضخم أعداد العاملين في هذه المؤسسات، وجلهم ممن يتم تعيينهم بالواسطة والمحسوبية ووفق أسس ليس لها صلة بالقدرات الإبداعية أو الإنتاجية أو الاحتياجات الحقيقية لخدماتهم.نجاح الخصخصةفي ظل حالة التردي هذه ظهرت، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، الدعوة إلى الخصخصة، حيث لم تعد أفضلية القطاع الخاص على القطاع العام في الأنشطة الاقتصادية موضع جدل بين المختصين، وبات من نافل القول أن حرص واهتمام أصحاب المؤسسات الخاصة بشؤون مؤسساتهم يفوق حرص واهتمام الأجهزة البيروقراطية للدولة بشؤون المؤسسات العامة، كما بات من مكرور القول إن منتج القطاع الخاص يسعى دائما إلى ترشيد عملية استغلال الموارد وتحسين إنتاجيته وتطوير منتجاته، وإلا فلن يقيض له أن يستمر طويلا في دائرة الإنتاج التي تعج بغيره من المنافسين والسلع البديلة، وتخضع -وهذا ما ينبغي- لرقابة حكومية صارمة على معايير الأداء ومواصفات المنتجات وجودتها.وقد حفل السجل العالمي لتجارب الخصخصة على مدى العقود الثلاثة الماضية، سواء على صعيد الدول الغنية أو البلدان النامية، بقائمة طويلة وثرية من النجاحات، تفوق وبمعدل كاسح من حيث العدد والقيمة حالات الفشل أو التعثر، وهي حالات لا يعود الفشل أو التعثر فيها إلى التخصيص بحد ذاته، بل يعود في الغالب إلى فقدان شروط النجاح اللازمة وأهمها الحوكمة والشفافية والبيئة التنافسية والرقابة الحكومية الفاعلة.هل الخصخصة شر مطلق؟في الكويت، فوق كل ما سبق من معضلات، أسهمت هيمنة القطاع العام وأساليب إعادة توزيع الثروة الريعية في تكوين قيم وثقافات مجتمعية استهلاكية عززت من ظاهرة الاتكال على الدولة، التي باتت تسيطر على حصص واسعة من النشاط الاقتصادي في مختلف القطاعات، كما باتت المالك الأكبر للأصول، والمستهلك الأكبر في السوق المحلي وكذلك أكبر صاحب عمل في البلاد يوظف ما يزيد على تسعين في المئة من العمالة الوطنية التي تضم نسبة مهولة من البطالة المقنعة إضافة الى آلاف عدة من العمالة الهامشية، مما أدى إلى تفاقم حالة التردي في مختلف أنواع الخدمات والمرافق العامة.إن المطلوب الآن، والكويت تقف أمام مفترق طرق تاريخي، هو قرار حاسم بدعم خيار الخصخصة المشروط بتوافر أسس نجاحها، أقول "دعم الخصخصة"، ولا أقول "دعم قانون الخصخصة"، فهذا القانون قد أشبع قصا ولصقا وتحريفا ولست أبالغ إن قلت تنكيلا وضربا تحت الحزام إلى حد دفع أنصار الخصخصة إلى التحفظ عنه والتخوف من عواقبه.فلندعم توجهاً حقيقياً وجوهرياً لا شكلياً نحو الخصخصة، لأن بديل الخصخصة، التي يعتقد البعض أنها شر مطلق وأنها بيع للكويت وتصفية لدولة الرفاهية، ليس سوى المزيد من هدر الثروة، المزيد من الفساد الاداري والمالي، المزيد من التردي في معدل كفاية وكفاءة المرافق والخدمات العامة، المزيد من البطالة المقنعة والتضخم الوظيفي غير المنتج، المزيد من الكوادر وزيادات الرواتب التي تصب الزيت على نار التضخم، والمزيد من هدر الطاقة الكهربائية وان انقطع تيارها في قيلولة يوم قائظ من أيام الصيف.
مقالات
نعم للخصخصة... ولكن ليس بقانون كهذا!
12-05-2010