«كلما تحاول أن تقول جديدا تصيبك حالة من الدوار! الكلام الجديد يحتاج إلى حياة متجددة! ولكن المنظر ممل كحبات مسبحة قديمة! وعلينا أن نمارس التكرار الممل على أمل أن نلتمس طريقا يحرك الراكد في بحيرة حياتنا! ويغسل شيئا من الصدأ فوق أرواحنا! ويعطينا القوة كي نستمر في تحريض الناس على الحياة حتى لا نصاب وتصاب أوطاننا بالشيخوخة المبكرة!...». أحمد الربعي 31/1/2007.
***من كتب مقدمة هذا المقال قرأ المستقبل، ووصفه كأنه ماثل أمامه، وصاحبنا عاشق البحر قرأ الجواب من عنوانه وأرسل رسائله باكرا قبل أن ينتبه إليها الكثيرون.وهل تظنون حقا أنه رحل؟ هل موتنا نحن الذي يعني التحلل والاتحاد مع حبات الرمل، يتشابه مع رحيل أصحاب الرؤى والتبصر، الذين يملؤون حاضرنا بزوادة سمينة من صور القادم من الأيام كأنهم يؤمنون المستقبل لنا لتجنيبنا مخاطره المحتملة، فإن تغيبوا بقيت بصماتهم تملأ فراغهم، تدل عليهم، تؤكد حضورهم المبهر؟تقتضي مدرسة صاحب الأربعائيات، البعد عن الحزن على الطريقة العربية، أفرادا ودولا، حيث يفني المرء نفسه بالتفجع المتواصل على حبيب رحل أو مال نهب، أما الدول فتخلق شماعات الأعذار وتدرجها في البطاقة التموينية لتوزيعها على أبناء الشعب. هذه الطريقة لا تدرس في تلك المدرسة إلا على سبيل الاستشهاد والتندر لأن منهجها الأساسي هو تحرير العقول من شراك ثقافة الفناء حتى الفناء. إن يوم الخامس من مارس من عام 2008 لم يسجل فيه رحيل صاحب الأربعائيات إنما صاحب الجسد الفاني كسائر البشر الدكتور أحمد الربعي، لأن صاحب الأربعائيات مازال حيا بيننا بما كتبه عن واقع حل ومستقبل يطل، فكيف إذن يصح القول إنه مات؟ لقد كان الحزن منطقياً على فراق أخ أكبر ومعلم فذ وسياسي بارع وخطيب مفوه مثل أحمد الربعي، ولكني سأعترف لأول مرة بأني لم أبك على صاحبي كما كنت أتوقع بعد تأكد خبر وفاته، وكأني أطبق ما علمني إياه بعدما تهاويت من الداخل عقب خسارته في انتخابات 1996م، إذ مازلت أذكر كيف انتشلني بكلمات قليلة معبرة عن دروس الانتخابات وقسوتها على قادة عظام مثل شارل ديغول وونستون تشرتشل، فكيف هي الحال على أستاذ الفلسفة الذي يخاطب ناخبيه بلغة العقل بدلا من تخليص المعاملات والاستقواء بالطائفة والقبيلة والعائلة؟على يده تعلمنا كيفية تحويل الطاقة السلبية الناجمة عن الهزيمة والخذلان إلى طاقة إيجابية خلاقة، وكيف نستبدل بدموع الحزن دموع الفرح، واستخدام العقل كمرشد للطريق، ولنقرأ ما كتبه بهذا الخصوص:«قال: من يدلني على الطريق؟ قلت بوصلتك الأولى عقلك!قال: ثم ماذا؟ قلت عقلك!! قال ثم ماذا؟ قلت آثار أقدام من سبقوك على الطريق!! قال: الطريق موحش! ولا خبرة لي في قطع الفيافي، ولا مؤنس ولا زوادة من طعام!قلت: التجئ إلى عقلك فلا عاصم اليوم من جهل يلف القرى والمدن، ويبحث عن مستقبله في قراءة الكف والفنجان وخرافات الشعوذة سوى العقل!...». يوجد لدى بعض الثقافات اعتقاد بأن أرواح من يغادرون الحياة قبل انتهاء مهامهم تبقى هائمة في الأماكن التي كانت تتردد عليها، وتظهر أمام الأشخاص الذين تعتقد أنهم سيتممون ما بدؤوه نيابة عنهم، فإن نجحوا في تلك المهمة فإن الأرواح تختفي مصحوبة بابتسامة عريضة إلى الأبد، وإن فشلوا تبقَ الأرواح معلقة وتحاول تكرار التواصل مع أشخاص آخرين حتى يتحقق مرادها بالخلاص.وفي ثقافتنا الشعبية يظهر لنا «المراحيم» في أحلامنا ليخبروا عن أحوالهم ونخبرهم عن أحوالنا، وكثيرا ما سمعنا أن المرحوم مثل الجد أو الأب زعلان علينا أو هو يستشعر حدة الخلافات التي طرأت على علاقة الأهل والأبناء، صاحب الأربعائيات تجاوز هذه المراحل بكثير، واشترى الراحة الأبدية، ليس بسبب اكتمال مهمته في الحياة، فالكويت التي حلم بها الربعي مازالت على الورق، ولكن لأن روحه العنيدة ترفض التردد الذي حاربه بين الحياة والموت، مكتفيا بما دوّنه لنا من مقالات وآراء وتجربة تحولت جميعها إلى وصايا مهداة للأجيال الحالية والقادمة. ختاما ها هي الذكرى الثانية لرحيل أحمد الربعي تحل، وإلى أن يتحقق حلمه وحلمنا، سنؤجل دموعنا عليه طالما ظلت سفينتنا الكبيرة عالقة وسط البحر الهائج، فمازال في الوقت متسع ومن وسط الخراب ينبت الأمل. الفقرة الأخيرة: كل ما كتب عن مهازل احتفالات العيد الوطني وعيد التحرير غابت عنه كلمة واحدة هي «همج» يمارسون أعمالا همجية، وإلا هل يعقل أن يخرج المحتفلون بتلكما المناسبتين متمنطقين بـالعجرات والعصي والفؤوس، بدلا من حمل الأعلام وصور أمير البلاد وولي عهده الأمين؟ كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
الأغلبية الصامتة: أحمد الربعي... موعد مؤجل للبكاء
04-03-2010