مواجهة الغياب
حين كتب الشاعر الراحل أمل دنقل «أوراق الغرفة 8»، هل كان يتنبأ برحيله؟ كيف للأشياء كلها أن تتحول إلى نذر الغياب والرحيل: سرير المستشفى، لباس الممرضات، باقة الورد، الزائرون المتّشحون بالسواد، همهمات زوجته حين تشد على يده، وتحنو على جسمه الضئيل.
سجل دنقل بلا شك لنفسه مكانة فريدة في مواجهة الموت، رفض الاستسلام، ونصرة البسطاء المهمشين، ورغم القضايا الكثيرة التي يتفرع عنها شعره، فإن «أوراق الغرفة 8» يكاد يكون الديوان الأكثر صدقاً في مواجهة قضية الموت، إذ جاءت قصائده شفافة ومنسابة بقدر انسياب القلق الذي ينجم عن سؤال الوجود: إلى أين نمضي بعد هذا الغياب الأبدي؟ وهل من رحلوا أدركوا الحقيقة أم أنهم غابوا فحسب؟ هل يتهيّب الشعراء الحديث عن الموت؟ ولماذا نجد عدداً قليلاً من الشعراء هم فقط الذين يرثون أنفسهم؟ وهل الكتابة عن الموت نذير شؤم، وإعلان لبداية الغياب؟في أوائل عام 2000 حين أُعلن في الكويت الخبر/الفاجعة برحيل الشاعر الشاب علي الصافي إثر حادث مروري، راحت الأكف تقلب سريعاً ديوانه الوحيد «خديجة لا تحرك ساكناً»، كانت المفاجأة الكم الهائل من إشارات الموت والرحيل المبثوثة بين ثنايا القصائد، كأن الشاعر كان يتنبأ برحيله، السؤال: ماذا لو لم يكتب الصافي تلميحات الرحيل هذه، هل كان للموت أن يتأخر عن موعده؟ كتب الصافي بصدق إحساس الشاعر الذي يترقب رحيله قصيدة «تسيرين في جنازتي كالغريبة»، وكتب كذلك «طريق الفحيحيل السريع»، وهو واحد من أشهر الطرق السريعة في الكويت، لا يمكن للمرء أن يتنبأ بما يحدث له حين يقصد هذا الشارع تاركاً «الكويت» الوادعة وراءه متجهاً صوب «الفنطاس»، أطلق بعضهم عليه طريق الموت السريع، يقول الصافي:«يا الفاحم الجميلُ/ يا الصوفي في ليل طويل/ أما أتعبتك الحوادث والانتظارات/ توحدت حتى توحدت فيك الصبايا/ الذاهبات إلى الغيب(...) يا حارس الانتظار والغياب والأرصفة/ كيف مر بنا العمر كالعاصفة»؟هل يمكن لأحد أن ينتصر على الموت؟ سؤال تردد كثيراً بعد غياب محمود درويش، وقبله نزار قباني، والجواهري، وأمل دنقل. كانت جدارية درويش بمنزلة صرخة في مواجهة الموت، جاءت القصيدة مطوّلة، شديدة التنوع تحرث في مناطق إبداعية عدة، وإن يكن كثيراً ممّن تناولها يتوقف عند المقطع الشهير «هزمتك يا موت الفنون جميعها/ هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين».كان درويش يستنطق الموت، ويتأمل رحيله، خصوصاً أن القصيدة جاءت بعد عملية ثانية للقلب، كتب درويش بعد ذلك قصيدته المطوّلة «لاعب النرد».كان درويش كما هي الحال مع أمل دنقل مصراً على الكتابة، كما أن رحلة الشاعرين مليئة بالمعاناة والمرارة والتشرد، فدرويش استنفد حياته في متاهة «القضية» والبحث عن الوطن، أما أمل دنقل فراح يردد رغم عذاباته الكثيرة «لا تصالح»، باحثاً عن «لون الحقيقة في تراب الوطن».لم تبلغ قصيدة في الشعر العربي شهرة ولا مكانة قصيدة مالك بن الريب التي يرثي بها نفسه، كنا ومازلنا منذ المرحلة المتوسطة نحفظ المقطع الشهير «ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة/ بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا/ فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه/ وليت الغضا ماشى الركاب لياليا».تكتسب القصيدة أهميتها من صدق الإحساس، وطرافة الموضوع، وندرته.ورغم إيماننا بوجود فارق ضئيل بين «رثاء النفس» و»مواجهة الموت»، فإن الغياب يظل السؤال الأبرز الذي يقلق الشعراء، سواء تجشموا عناء الكتابة، أن تجاهلوا الحالة برمتها، وبقي القلق يعيش في دواخلهم.