قبل أيام، التقى الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط الرئيس السوري بشار الأسد، وشكّل هذا اللقاء ذروة سنة من التكفير عن موقفه السابق المناهض لسورية إثر اغتيال حليفه، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، عام 2005.
لا شك أن تأرجح جنبلاط السياسي المشهور يُخجل رقاص الساعة الأكثر تحركاً؛ ففي عام 2007، وصف جنبلاط الأسد: "طاغية دمشق، وحشاً من وحوش البراري، ومنتجاً إسرائيلياً، وكذاباً، ومجرماً". لكن جنبلاط اعتذر الشهر الماضي مباشرة على الهواء، قائلاً إن خطابه هذا "غير لائق وغير مألوف وخارج عن الأدبيات السياسية حتى في المخاصمة"، ويوم الخميس، وصف لقاءه مع الأسد بالممتاز، والودي، والصادق، والإيجابي جداً.وتابع جنبلاط موضحاً أنه يرحب بحلفاء سورية اللبنانيين وبأجندتهم، من الدعم غير المشروط لسلاح "حزب الله" إلى إدانة مطالبة الأمم المتحدة وبعض اللبنانيين بتطبيع كامل للعلاقات بين لبنان وسورية.ومع أنه دعا سابقاً إلى توقيع هدنة مع إسرائيل بهدف تحييد لبنان الهش عن صراعات المنطقة، يتعهد جنبلاط اليوم بالتزام كامل بالقضايا العربية، وتشمل هذه القضايا المقاومة المسلحة بغية استعادة مزارع شبعا الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي. ويُذكر أن هذه المزارع قطعة أرض صغيرة صارت أحد الأعذار التي يتحجج بها "حزب الله" ليواصل المقاومة.إذا وضعنا أعمال المداهنة والتملق جانباً، لا يسعنا أن نُنكر أن المناورات السياسية التي يقوم بها جنبلاط، زعيم مجتمع صغير لديه مخاوف وجودية مبررة، تعكس دوماً التوازن السياسي داخل لبنان، توازناً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسورية.ففي عام 2008، كان جنبلاط أحد الأسباب التي دفعت بـ"حزب الله" إلى الاستيلاء بالقوة على بيروت، وكان مقاتلوه هم مَن تصدوا لمحاربي الحزب في الجبل، معقل الدروز، لكن جنبلاط استخلص من هذه الحادثة وغياب رد الفعل الدولي أن سيطرة "حزب الله" المسلحة على الشوارع وتحالفه مع سورية وإيران يفوقان خصومه المحليين قوة.صحيح أن الائتلاف المناهض لسورية فاز في انتخابات عام 2009، إلا أنه خسر المعركة السياسية بعدما أعادت فرنسا والمملكة العربية السعودية، اثنان من داعميه الأجانب، توطيد علاقاتهما مع دمشق. نتيجة لذلك، سأل جنبلاط قائد "حزب الله"، حسن نصرالله، أن يتوسط له عند الرئيس السوري.لكن نصرالله كان منشغلاً بقضايا أكثر إلحاحاً يوم زار جنبلاط دمشق، فقد انهمك في دحض الشائعات عن أن المحكمة الخاصة بلبنان، التي أنشأتها الأمم المتحدة لمحاكمة أفراد بتهمة الضلوع في اغتيال الحريري وغيره من الشخصيات المناهضة لسورية، تستهدف منظمته.أقر نصرالله في مقابلة معه أن محققي الأمم المتحدة استجوبوا عدداً من أعضاء "حزب الله"، إلا أنه أكد أنهم شهود، لا مشتبه فيهم، كذلك ندد بالشائعات بلهجة قوية، معتبراً إياها محاولة لتشويه صورة حركته.ولكن إذا كان "حزب الله" متورطاً حقاً في الاغتيال، كما أفاد أخيراً عدد من التقارير الإخبارية المتفاوتة المصداقية، فسيؤدي ذلك إلى هزة قوية في السياسة اللبنانية.تشهد صالونات بيروت راهناً مناقشات مبالغا فيها عن تورط "حزب الله" المزعوم وأسبابه، على الرغم من سرية مجريات المحكمة، فهل كان السوريون والإيرانيون متورطين أيضاً في هذه العملية أو كانوا على علم بها؟ أيُعقل أن يكون جهاز "حزب الله" الأمني قد أخفى المعلومات عن قيادته؟ وما الدافع وراء ذلك؟تكمن مشكلة "حزب الله" في أنه منذ انطلاق التحقيق الدولي وهو يسعى إلى عرقلته، ويشكك في شرعيته، ويدين فقدان السيادة اللبنانية.علاوة على ذلك، أعاق "حزب الله" في مناسبتين عمل الحكومة بسبب مسائل تتعلق بالمحكمة، التي يمولها لبنان جزئياً ويقدم عدداً من موظفيها. في الماضي، ساد الافتراض أن "حزب الله" ينفذ ما تطلبه منه سورية، أما اليوم فيشيع التحليل أن الحزب، على ما يبدو، كان يحمي ظهره بكل بساطة.في الوقت نفسه، مازال التحقيق غير حاسم بعد خمس سنوات من العمل، فقد نُسيت اكتشافات شهر أكتوبر عام 2005 عن تورط شخصيات استخباراتية سورية رفيعة المستوى. كذلك أُطلق السنة الماضية سراح أربعة ضباط لبنانيين كانوا يتحكمون بالأجهزة الأمنية اللبنانية يوم اغتيال الحريري، بما أنه لم توَّجه ضدهم أي تُهم.وكما أشار نصرالله، ينحصر الجزء الأكبر من الاتهامات الموجهة ضد "حزب الله" في وسائل الإعلام، فضلاً عن ذلك، عانت المحكمة رحيل عدد من مسؤوليها البارزين، مما يشير على الأرجح إلى استياء داخلي وسوء إدارة.لقد أثار أداء المحققين الضعيف الكثير من التكهنات عن أن تقربهم من سورية دفع الغرب والبلدان العربية إلى الحد من دعمهما للمحكمة، لكن هذا أمر مشكوك فيه، مع أن الحماسة الأولى تراجعت إلى حد كبير في باريس والرياض وواشنطن.ولكن إذا كان "حزب الله" المكروه، لا دمشق التي يحاول الجميع التقرب منها اليوم، هو المذنب، تقول الشائعات إن هذا التردد قد يختفي على الأرجح. ويتوقع بعض المحللين أن تتخلى دمشق عن "حزب الله" وأن يُلقى اللوم، هذا إذا كان هنالك من لوم، على كاهل عماد مغنية، رئيس الجهاز الأمني في "حزب الله" الذي اغتيل في دمشق قبل سنتين.ثمة مخاوف في بيروت من أن أي اتهام يوجَّه إلى عضو من "حزب الله" قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، فكم بالأحرى إذا سُلِّم هذا العضو إلى السلطات المختصة أو أدين! لكن الإحجام عن اتهام مماثل لهذه الأسباب يعني أن الابتزاز هزم العدالة.تكمن معضلة اللبنانيين الذين حاربوا سورية للفوز بالانعتاق السياسي في أن أقوى أدواتهم (العدالة والدعم الخارجي) تبدو غير ملائمة البتة عندما تواجه الوقائع الإقليمية والسياسية.يرتبط انقلاب جنبلاط على الأرجح بالوضع الفوضوي هذا، حتى أن سياسيين لبنانيين آخرين، أمثال رئيس الوزراء سعد الحريري، يجدون أنفسهم في موقف أصعب بكثير، فلم يعِ لبنان سوى اليوم تداعيات اكتشاف مَن كان وراء اغتيال الحريري.* إميل الحكيم | Emile Hokayem
مقالات
المحكمة تستهدف «حزب الله»... ولبنان يبحث عن مخبأ
09-04-2010