بعد رحيل فؤاد زكريا... ماذا بقي من «معارفه» ومعاركه؟

نشر في 14-03-2010 | 00:01
آخر تحديث 14-03-2010 | 00:01
No Image Caption
أحد الذين أضاؤوا سماء الكويت
رحل عن عالمنا الخميس المنصرم الفيلسوف والمفكر العربي الكبير فؤاد زكريا، وقد أصدر العديد من الجهات المحلية بيانات تعزية لما يتمتع به المفكر الراحل من مكانة كبيرة ودور في إرساء دعائم الثقافة، بإصداره سلسلة عالم المعرفة، وتوليه رئاسة قسم الفلسفة في جامعة الكويت سنوات عديدة.

يغادرنا فؤاد زكريا، مثل علماء كثيرين، وفلاسفة أجلّاء يضيئون حياتنا، تخبو الشعلة قليلاً، لكنها لن تنطفئ، هو درب التنوير المليء بالعثرات، والأسئلة الدينية، والكونية، أسئلة ملغومة، تثير كثيراً من الضجيج، لذا، فإن أول ما يلفتنا من حياة المفكر الراحل صراعه مع التيار السلفي، وعدد من منظري الدعوة الإسلامية من بينهم يوسف القرضاوي، ومحمد الغزالي، وكذلك كانت له انتقادات شديدة للتيار الناصري، تمثلت في رده على محمد حسنين هيكل، في كتابه "خريف الغضب"، إذ كتب زكريا "كم عمر الغضب"؟

الكويت

كان الراحل أحد الذين أضاؤوا سماء الكويت، إذ عمل أستاذاً للفلسفة في جامعتها، وترأس القسم منذ عام 1974، وساهم مع الراحل أحمد مشاري العدواني في تأسيس سلسلة عالم المعرفة، وبقي مستشاراً لها حتى رحيله.

وما يمكن أن نستذكره من حياة المفكر الراحل وعطاءاته بالنسبة إلى الكويت يتمثل في سؤال مهم، هو: ماذا بقي من هذه العطاءات؟ وما مستوى سلسلة "عالم المعرفة" في الوقت الراهن؟ إذ يتطلب الإخلاص لهذه السلسلة أن تظل في المستوى ذاته الذي أسس له المفكر الراحل، وألّا تتدهور أو تهبط لا من حيث الشكل ولا المضمون.

كان زكريا، رحمه الله، يدرك أن لمثل هذه المشاريع الفكرية سطوعاً وردات فعل إيجابية في ما يتعلق بالبلد الذي تصدر عنه، وهو ما نظن أنه قد تحقق بالفعل، فإبان فترة السبعينيات والثمانينات، لم تكُن الأوطان العربية تعرف عن الكويت إلا باعتبارها مصدّراً أول للمعرفة والثقافة، ابتداء من مجلة العربي فسلسلتَي عالم المعرفة، وعالم الفكر، الأمر الذي لايزال مصدر فخر للكويت، ونتحدث عنه حتى اللحظة.

الخرافة

من يتتبع كتابات المفكر الراحل، والحوارات التي أجريت معه، يدرك الحساسية الشديدة التي يبديها تجاه الخرافة والأساطير، وما يتبعها من سحر وشعوذة، إنه أحد الدعاة إلى إعمال العقل والعقل وحده في كل شؤون حياتنا، وذلك لا يعني أنه يُغفل الجانب الروحي، لكن بحسب رأيه الروح جزء من إعمال العقل، ولا يمكن التفريق بينهما، لذلك نجده يبدي تعجباً شديداً من أولئك الذين يلجأون إلى الخرافة، والسحر في مواجهة الأمور الغيبية، أو الظواهر المستعصية على الحل، والأعجب أن من بين هؤلاء أناساً على قدر كبير من العلم والمعرفة.

وكان له رأيه الخاص أيضاً في ما يتعلق بمسألة الغزو الثقافي الغربي، إذ يدعو إلى الانفتاح على العلوم والأمم الحديثة، والغزو المزعوم ما هو إلا وهم، نداري به عجزنا وضعفنا، ولم يسلم المفكرون العرب المحدثون من أمثال محمد عابد الجابري، وعبدالله العروي ومحمد أركون من انتقاداته، إذ رأى أن هذه الأسماء ورغم ما لها من حضور ثقافي فاعل، فإنها عجزت عن "إيجاد تيار فكري تنويري يماثل ما قام به المفكرون والفلاسفة الفرنسيون أو من يطلق عليهم الموسوعيون في القرن الثامن عشر قبل الثورة الفرنسية، أو أدباء روسيا ومفكروها في القرن التاسع عشر قبل الثورة الفرنسية".

ومن الملاحظ أن التغيرات الكبرى في العالم تأتي على إثر ثورات شعبية، يقودها، ويشعل فتيلها الكتاب والمفكرون، الأمر الذي لم يتحقق في الثقافة العربية الراهنة، بسبب خضوعها للتراث، وعدم المقدرة على تجاوزه، فنحن مكبّلون بالماضي، يقول: "الفرق بين التراث الذي يؤدي إلى تقدم والتراث الذي يؤدي إلى تخلف، هو أن التراث الأول حياته من خلال موته، بمعنى أنه لابد من تجاوزه، أما الثاني فإنه يموت من خلال حياته بإجباره على مشكلاتنا الحالية، ومحاولة زرعه كالقلب الغريب في جسد الحاضر"، فهل نستطيع من خلال لجوئنا الدائم إلى التراث حل مشاكل الحاضر؟

العلمانية

سؤال الأصالة والمعاصرة هو ما يدفع زكريا إلى توجيه مقولاته الفلسفية بشكل دقيق ومباشر لا يقبل التأويل أو الخطأ، فنجده يطلق مقولة "العلمانية هي الحل" في رده على أولئك الذين يقولون "الإسلام هو الحل"، ولعل من أطلق هذه المقولة الأخيرة لم يكُن واعياً لروح الإسلام أو تطوّره، لذلك فإن فؤاد زكريا يتهم هذه التيارات بالسطحية والتمسك بالمظهر على حساب المضمون.

كانت هذه المواقف تفتح على المفكر الراحل باباً للهجوم والانتقادات داخل مصر وخارجها، ازدادت حدة بعد مقاله الشهير "معركتنا... والتفكير اللاعقلي"، كتبه إبّان حرب اكتوبر 1973، إذ قال ما معناه: "من الظلم البيّن أن ننسب الانتصار العسكري الوحيد الذي أحرزناه على الأعداء في العصر الحديث إلى الملائكة، وننكر الجهد الشاق الذي بذلته القوات السلحة في التدريب والإعداد والاستعداد".

وبالطبع، فإن هذا المقال الذي يفند بوجه أو بآخر مقولة نزول الملائكة للقتال مع الجيش المصري، فتح الباب على مصراعيه لدعاوى التكفير، والهجوم، إذ لم يكُن أحد ليجرؤ على الاقتراب من مناطق لها علاقة بالغيبيات والفهم الإسلامي لها، مثلما فعل زكريا.

ناقش الراحل كثيراً من قضايا الفلسفة المعاصرة، ومن بينها قضية "التفكيك" التي يرى أن لها صلات بالفلسفة القديمة تتمثل في مقولات سقراط وديكارت، وليست بدعاً من القول جاء به دريدا، كما يرى وبحسب حوار أجري معه على "النيل الثقافية" قبل فترة وجيزة من رحيله، أن تهافت المفكرين العرب وراء مقولات دريدا يرجع إلى سبب رئيس يتمثل في عدم إدراكهم أقدمية هذه المقولات، وأنها موجودة في الفلسفة منذ البدء، كما يدعو زكريا دائماً في مقولاته إلى إعمال العقل، ويرى أن القلق، وإثارة الأسئلة المستعصية أحد مظاهر التطور والنماء، كما أن الشعوب المطمئنة الراكنة إلى المسلمات والغيبيات لا يمكن أن تجاري العصر، أو تحدث ثورة فكرية وعلمية.

وللراحل مقولات عديدة وتنظيرات في الموسيقى، والسياسة، وعلم الاجتماع، يشير في غير موضع إلى أن الهدف من كل الحركات الفكرية والسياسية الدعوة إلى إحداث العدالة الاجتماعية، كما أن كل ظواهر الحياة يمكن تحليلها فلسفياً، ما يجعل الفلسفة العصب الأوحد للحياة والفكر والتطور.

رحم الله المفكر الراحل، وعزاؤنا في ما بقي من عطائه وفكره.

back to top