عجيب أمر البعض، كيف يقدمون بملء إرادتهم على الظهور في برنامج تلفزيوني حواري، فيوقعون أنفسهم في فخ الإحراج و»البهدلة»، على مرأى ومسمع من آلاف الناس! عجزت حقا عن أن أجد لهذا الأمر تفسيرا، إلا التفسير بأن إغراء الظهور التلفزيوني هو الإغراء الأكثر إثارة عند البعض!
لكن أغرب ما في الأمر هو أن البعض من هؤلاء، يظن أن الحوارات التلفزيونية رحلات مجانية سهلة نحو الشهرة، فلا يكلف خاطره بأن يستعد للأمر، وقصارى الأمر أن يذهب ليواجه المجهول والمفاجآت على الهواء مباشرة، فيحاول الصد والرد، والكر والفر، وهو يتخبط في عرق الإحراج، ويتعثر في ريقه الناشف!إحدى الزميلات الإعلاميات من قناة عربية، لم تتمالك نفسها قبل فترة، وبعدما كثر اعتذاري عن الظهور على قناتهم في أكثر من برنامج وفي أكثر من موضوع، وترشيحي لأسماء أخرى ممن أراهم أقدر مني على الحديث في الموضوعات المطروحة، فصارحتني باستغرابها قائلة بأنه من النادر أن يمر عليها من يرفض الظهور بهذه الكثرة، بل أن يقترح أسماء أخرى غيره، فأجبتها بأن مدار الأمر بالنسبة لي هو الرسالة، بمعنى أنه إن لم تكن عندي رسالة ما أريد إيصالها، أو شيء متميز سأقوله في الموضوع المطروح فلا داعي أن أظهر.مثلا، ماذا سأضيف في برنامج يتحدث عن تأثيرات الواقع العراقي المضطرب على الاستقرار السياسي في الكويت؟ نعم، قد أستطيع تدبر أمري ببضع عبارات إنشائية أبنيها على المعلومات البائتة المكررة في الجرائد، وبقليل من الذكاء واللف والدوران، إلا أن المشاهد المثقف الذكي سيستطيع أن يدرك دون جهد يذكر أن ما قلته ليس بجديد، ناهيك عن أني لن أنجو من براثن محاور جيد إن هو أراد حشري في زاوية صعبة. لهذا فقد تعلمت ألا أظهر في أي لقاء متلفز، ما لم أكن مقتنعا أصلا بطبيعة القناة وقيمتها، وشكل البرنامج وأسلوب من سيقدمه، وعلمت مسبقا، وبالتفصيل الممكن، عن ماهية محاور الموضوع المطروح، ووجدت بعدها أن عندي من الذخيرة ما سيجعلني أظهر بصورة لائقة ترضي المشاهدين، وترضيني عن نفسي قبل ذلك.هذه قاعدتي وتجربتي الشخصية، لذلك فهي لا تعني أن ليس من حق أحد أن يظهر لمجرد الظهور، فمن حق الناس أن تفكر بطريقتها الخاصة، ولكن من الواجب على هؤلاء أن يعدوا العدة للظهور التلفزيوني جيدا، وإلا انقلب الأمر عليهم، وخرجوا منه بخسائر أكبر بكثير من أي مكسب قد يظنون بأنهم تحصلوا عليه.يا سادتي من الراغبين بالظهور التلفزيوني، عندما يتعرض أحدكم للإحراج علنا في برنامج تلفزيوني واسع المشاهدة، فلن يفيده بعد ذلك أن يخرج ببيان أو تصريح أو أن يكتب مقالا يحاول من خلاله أن يجبر الكسور التي ألمت به على يد من حاوره أمام الشاشات، فذلك التأثير السحري للتلفاز لا يمكن تغييره بسهولة، لهذا فمن الأصلح ألا يظهر المرء إلا وهو مستعد، وجاهز وواثق بأنه قادر على التعبير عن نفسه بشكل مقنع.وهذه الكلمة، أعني كلمة «مقنع»، هي الكلمة السحرية، فصحيح أن من المهم أن تقول الحقيقة، لكن الأهم من ذلك بكثير هو كيف تقولها، فكم من شخص لم يتكلم بغير الحقيقة ولكنه فشل في التعبير عن نفسه وفي إقناع الآخرين، وكم من شخص ساحر مسيطر على الألفاظ، وقادر على التحكم بأدائه، استطاع أن يقنع الناس، ولن أقول يخدعهم، بما هو مجاف للحقيقة!
مقالات
ما هو أهم من الحقيقة!
15-06-2010