المعارضة ليست حزينة على خسارة الانتخابات
أما وقد انتهت الانتخابات النيابية إلى ما انتهت إليه، فإن «حرباً» جديدة قد فـُتحتْ قبل شهر واحد تقريباً من إعلان الفوز والخسارة، وهي «حرب» اختيار رئيس لحكومة جديدة في ظل معطيات نتائج هذه الانتخابات. هذه الحرب استعد لها الطرفان المتنازعان بمعزل عن معرفتهما للنتائج، وقد أحيطت بإطار كثيف من السرية لأنها تتعلق باستراتيجية كل فريق، والسيناريو الذي سيعتمده في حال الفوز أو الخسارة. وقبل البدء بالإضاءة على هذا الموضوع لا بد من القول إن معركة من يحكم ستكون أكثر عنفاً من معركة الانتخابات. يشاركني هذا الرأي «القيادة العليا» للفريقين.المعلومات الواردة أدناه لا تصلح لحاضر لأنها باتت نسيجاً من الماضي، لكن تسجيلها يلقي الضوء على حالتين: الأولى أن المعارضة كانت واثقة من الفوز، والدليل أنها استعدت لتسلم الحكم بشكل كامل وعلى مختلف المستويات، غير أن حساباتها السورية لم تكن دقيقة بالشكل المطلوب، حيث استطاعت الموالاة أن تقلب السحر على الساحر. أما الحالة الثانية فهي تضيء على استراتيجية المعارضة في حكم لبنان، هذه الاستراتيجية وُضِعت على الرفّ بعد الانتخابات لاستخدامها كخطوط عريضة في انتخابات العام 1013، هذا إذا سمح الوضع الأمني والسياسي ولم تحدث تطورات دراماتيكية أبعدنا الله عن شرورها ومآسيها.
وقبل الإضاءة على هذا الموضوع لا بد من الجزم بأن معركة من سيحكم ستكون «أم المعارك» في مرحلة ما بعد الانتخابات، خصوصا وقد دخل أو أُدخِل فيها رئيس الجمهورية بإرادته أو من دون إرادته لا فرق.من يعتقد أن الانتخابات النيابية كانت نسيجاً لبنانياً صرفاً فهو خاطئ. في الواقع فإنها الانتخابات الأولى منذ عهد الاستقلال (1943) التي لا علاقة للبنانيين بها لا من قريب ولا من بعيد، بل كانوا عبارة عن أدوات وأحجار شطرنج بين أيدي لاعبين شطار لخدمة مصالحهم السياسية الإقليمية والدولية. وللأسف الشديد فقد أثبت بلد النور والإشعاع (لبنان) أنه لا يستطيع الاستمرار من دون وصاية ولا أوصياء. بالأمس القريب كان البلد تحت وصاية ذات رأس واحد (سورية) واليوم صار تحت وصاية مثلثة الرؤوس بشكل مباشر ومربّعة بشكل غير مباشر (سورية والسعودية والولايات المتحدة والوصي الرابع المخفي هو إيران).في العام 1943 خرجت فرنسا المنتدبة من البلاد لتحل مكانها بريطانيا التي كانت لاتزال عظمى، وفي الخمسينيات تمدّدت إمبراطورية الولايات المتحدة وطردت بريطانيا لتحل محلها، وفي ذلك الوقت كان مشروع إمبراطورية القومية العربية قيد التنفيذ بزعامة مصر جمال عبدالناصر. ورضيت أميركا في مشاركة عبدالناصر مرحلياً حتى تسهِّـل أمورها في ضرب قاعدة القومية العربية المتمثلة بالوحدة بين مصر وسورية. وكان لها ما أرادت في بداية الستينيات، حيث بدأ صراع الأوصياء على لبنان، وانقسم البلد على نفسه: فريق يطالب بتدعيم الوصاية الغربية بزعامة أميركا، والفريق الثاني يسعى إلى استعادة لبنان إلى أحضان القومية العربية التي بدأ نجمها بالأفول، ولعبت هزيمة الجيش المصري في عام 1967 أمام الجيش الإسرائيلي دوراً حاسماً في تقرير الوصي الجديد (الولايات المتحدة)، غير أن إسرائيل حاولت ونجحت في أن تتقاسم نفوذ الوصاية بينها وبين الولايات المتحدة. لكن سورية (حافظ الأسد) دخلت المنافسة تحت شعار أن لبنان يشكل حديقة سورية الداخلية، وأن التخلي عن دوره في وصاية هذه الحديقة يشكل خطراً مميتاً على استراتيجية نظامها الأمني، ونتيجة لذلك وقعت الحرب الأهلية التي دامت 15 سنة تحت شعار زائف هو الخطر الفلسطيني الذي نقل ثقله من الأردن إلى لبنان. وخلال فترة الحرب الأهلية دخلت سورية بجيشها إلى لبنان بعد أن طلب منها ذلك مقاومو المقاومة الفلسطينية (شمعون الأب والجميل الأب والبطريركية المارونية). وحدثت الفوضى في الاستراتيجيات وفي السيناريوهات، واستغلت دمشق ذلك إلى أبعد الحدود وتمكنت من طرد الأوصياء الآخرين، وفرضت نفسها وصياً أوحد طيلة ما يقارب الثلاثين سنة إلى أن خرجت عسكرياً في العام (2005) إثر اغتيال رفيق الحريري، واستعاد الأوصياء القدامى مراكز وصايتهم واستبدل لبنان وصاية الرأس السوري الواحد بوصايات متعددة الرؤوس.هذه اللمحة التاريخية تثبت بشكل لا يقبل الجدل أن لبنان لم يتمكن في الماضي، ولن يستطيع في الحاضر والمستقبل أن يعيش من دون وصاية ما. تلك حقيقة مرة يجب أن نعترف بها ونتعايش معها، وهناك حقيقة أخرى أكثر مرارة وهي ألا حق للبنانيين في اختيار الأوصياء عليهم.* * * في النصف الأول من شهر أيار/مايو الماضي وقبيل التوجه إلى صناديق الاقتراع اجتمع فرسان المعارضة الثلاثة: نصرالله وعون وبري تحت جنح الظلام، حيث وضعوا استراتيجية تسلمهم الحكم بعد أن وثقوا بالفوز بالانتخابات النيابية، واتفقوا على تجديد انتخاب نبيه بري لرئاسة المجلس وعلى طرح أسماء المرشحين البارزين لرئاسة الحكومة. وتباينت الآراء حول «جنسية» رئيس الحكومة المعارض العتيد: هل يكون بيروتياً أم شمالياً (طرابلس) أم بقاعياً (البقاع الغربي) أم جنوبياً (صيدا)، ونتيجة لتباين الآراء قرروا ترك هذا الموضوع إلى ما بعد ظهور نتيجة الانتخابات. واللافت أن حسن نصرالله ونبيه بري أبديا ميلاً نحو تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة المعارضة في حال فوزها، ذلك لأن للضرورات أحكاما، ولأن السياسة هي فن الممكن، ولأن تكليف سعد سيكون نتيجة لتفاهمات ومساومات إقليمية (سورية-سعودية) ودولية (فرنسية-أميركية) مما يساعد المعارضة في تطبيق برنامجها الإصلاحي والتنموي خارج إطار الصراعات على اختلافها. واستغرب ميشال عون هذا الميل وأبدى تفاؤلاً نشطاً بأن المعارضة– في حال فوزها– لن تكون بحاجة إلى سعد الحريري أو غيره ممن يمثلون الجناح الموالي مما دفع نصرالله إلى التلميح بأن انتصار المعارضة الحقيقي هو في خسارتها الأكثرية النيابية مرة أخرى.وقد أكدت أوساط «حزب الله» وحركة «أمل» هذا المنحى عندما تحدثت عن الصعوبات التي ستواجهها المعارضة عندما تصبح أكثرية بتشكيل حكومة تستطيع أن تحكم من دون مشاكل. يضاف إلى ذلك أن المعارضة سوف ترث كمية كبيرة من مساوئ حكومات الموالاة، ولن تستطيع أن تفي بوعودها وبعهودها بالعمل على معالجتها. ولهذا فإنها ستفشل حتماً خلال أشهر قليلة من تسلمها الحكم. فلماذا لا نأتي برمز الموالاة سعد الحريري ليتحمل مسؤولية ما صنعته أيدي الموالاة بالبلاد والعباد منذ التسعينيات إلى يومنا هذا؟نتيجة لذلك فإن من الخطأ القول إن المعارضة سعت وخططت كي تفشل في الانتخابات، والخطأ ذاته هو الزعم أن المعارضة كانت حزينة لأنها فشلت في الحصول على الأكثرية. ذلك أن هذا الفشل منعها من الوقوع في مأزق بلد بحاجة إلى إعادة ترتيبه من الألف إلى الياء. ولعل «القدر الإلهي» قد تدخل لإنقاذ المعارضة في اللحظة الأخيرة حسب قول الذين يؤمنون بـ«النصر الإلهي»، وهم، بالمناسبة، كثر.واليوم، حيث بات أمر إعادة انتخابات نبيه بري محسوماً، لأن رئاسة المجلس دخلت ضمن التصفيات المذهبية كرئاستي الجمهورية والحكومة، لكن قبول سعد الحريري بتشكيل الحكومة غير محسوم إلى الآن، ليس لأنه لا يملك موافقة وترحيب الأكثرية المطلقة في المعارضة وفي الموالاة، بل لأنه يتردد في أن يتولى إرث الماضي الضخم من الفساد وغيره، ولن يقبل إلا إذا كان واثقاً من النجاح. وهذا يعني أن الحكم أصبح محرقة للسياسيين الواعدين. وفي حال تمنع سعد الحريري عن قبول رئاسة الحكومة فإن من المرجح أن يتولى المنصب فؤاد السنيورة، ذلك أن السنيورة، بالرغم من فوزه بنيابة صيدا، فإنه لم يفز بودّ اللبنانيين على اختلاف مشاربهم، وليس لديه ما يخسره على الصعيد الشعبي، هذا بالإضافة إلى أنه أصبح خبيراً عالمياً في إدارة الأزمات بأسلوب اللف والدوران، لكن عودة السنيورة من شأنها أن تعيد خلط الأوراق من جديد، وبالتالي تعيد البلد إلى ما كان عليه.* كاتب لبناني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء