آمال: عندما تتقلص السخرية في الأرض

نشر في 07-05-2010
آخر تحديث 07-05-2010 | 00:00
 محمد الوشيحي هل ألوم نفسي على تكرار الكتابة من جديد عن "جديد" عمّ الساخرين، محمود السعدني، أم ألومها على التقصير في الكتابة عنه، وقبره لمّا يزل نديّاً؟ لا أدري، لكنني، ذات كتاب، قرأت كلماته الشابّة: "اللهم أحيني إلى عامي السبعين، كفاية قوي، فأنا لا أريد لأهلي ولأحبابي ولنفسي العذاب والبهدلة"، وعندما اقترب الموعد، وشارف على عامه السبعين، كتب: "اللهم كمان شويّة"، فاستجاب له الله، وكانت "الشويّة" اثنتي عشرة سنة. قضى الأربع الأخيرة منها على فراش المرض. فقد توقف عن الكتابة عام 2006، وهو الذي بدأها عام 1945. زامل في أيامه الأُوَل الساخر الكبير، أو الشاخر الكبير، كما كان يسمّيه، بيرم التونسي، وزامل في أواخر أيامه صحافيي السبايكي وصحافيي قَصَّة الشعر القديمة.

هنا في القاهرة، سأبحث عما يمكنني كتابته عن هذا العظيم. عن الذي عاش يحلم بوحدة العرب، ومات وغاية أمانيه ألا تتقاتل البلدان العربية. يبدو أنه أفرط في تناول اللحوم أثناء حياته. عن الذي شرب من المقالب في حياته ما لو شربته غرائب الإبل لتسابقت بحثاً عن أقرب دورة مياه، وأسقى بدوره المحيطين به مقالب لو شربتها البحار لزاحمت الإبل على دورات المياه.

وكان وشلة من الأصحاب في جلسة سمر في شقة صديق حياته ورفيق عمره رسّام الكاريكاتير "طوغان"، عندما اتصل "جلال كشك" يخبرهم بمجيئه، فقفز السعدني على آلة التسجيل، وسجّل بصوته بعد تغليظه جملة "أيها الشعب انتظروا البيان رقم واحد"، تلاه موسيقى عسكرية، وراح يكرر التسجيل: "أيها الشعب انتظروا البيان رقم واحد"، ومارش عسكري... ووصلت الضحية "جلال كشك"، فبادره السعدني: "شفت دبابات في طريقك وأنت جاي؟"، فأجابه كشك ببراءة: "شفت اتنين بس، ليه فيه إيه؟"، فأجابه السعدني بأسى: "فيه بلبلة، ربك يستر"، ثم دارت آلة التسجيل على اعتبار أنها الراديو، وعُزِف المارش العسكري، وجاء بعده الصوت الغليظ: "أيها الشعب انتظروا البيان رقم واحد"، ففتح "كشك" فمه ذهولا ورعباً، وراح يتمتم: "يا نهار أسود، يا نهار أسود"، والتصق بالراديو، والمذيع لايزال يردد "أيها الشعب انتظروا..."، ثم حلّت الكارثة: "أيها الشعب، إن قائد الانقلاب، السيد مصطفى طيبة، سيتلو البيان بعد قليل"، فقفز كشك وراح يجري في اتجاه الباب وهو يصرخ بفزع وهلع: "يا مصيبتك السودة يا جلال يا كشك، يا مصيبتك السودة"، وفتح الباب ولم ينتظر الأصانصير، وراح يقفز درجات السلّم، أربعاً أربعاً، وكان بين "كشك" و"طيبة" تنافس حزبي قادهما إلى تبادل الشتائم والبغضاء والعداء. ولحقَ طوغان بجلال كشك كي يهدئه ويخبره عن المقلب، إلا أن كشك لشدة هلعه لم يتوقف، ووصل إلى بيته وحمل ما خف وزنه وغلا ثمنه، واختفى.

هنا في القاهرة، سأكتب عن الذي دخل السجن بتهمة الشيوعية، وهو الذي لطالما سخر من الشيوعيين، وأطلق عليهم "جماعة الحنجوري"، أي أنهم لا يملكون سوى المصطلحات المعقدة الصعبة، ولا شيء آخر. ولأنه حكاواتي من سلالة شهرزاد، فقد تكفّل بإلهاء "الصول" الأمّي عن مراقبة المساجين أثناء قيامهم بالأشغال الشاقة، وراح يسرد على الصول حكايات السفر وركوب الطائرات، والحسناوات اللواتي تعرف عليهن في أوروبا وأميركا الشمالية، وكان يلتقط طرف حكاية ليصوغ منها قصة من خياله، وإذا بالصول يسأله: "طيب زرت بلاد يأجوج ومأجوج؟"، فذهل السعدني وفغر فاه، فركله الصول وهو يشتمه: "طبعا مش حتزور بلاد المسلمين ما أنت شيوعي ابن كلب، تروح تبلبط عند نساوين الخواجات وسايب المسلمين"، فأقنعه السعدني: "أصلي طلبت فيزة من سفارة يأجوج ومأجوج ولسه ما طلعتش"، فهدأ روع قائد المسلمين، الصول الأمي.

حكايات وحكايات لا تنتهي عن هذا العظيم الذي غاب ولم يمت. سلامٌ عليك يا أيها السعدني، يا أيها النبع الذي لا ينضب، الذي بغيابه تقلصت السخرية في الأرض.

back to top