وكأنها أحجية فالأميركيون يقولون، إنَّ هناك تقدماً في المفاوضات غير المباشرة الجارية منذ فترة بين إسرائيل والسلطة الوطنية، لكن الفلسطينيين ينفون هذا ويستغربونه، ويؤكدون أن الأمور على ما كانت عليه، وأنه لا جديد على الإطلاق، بينما الحكومة الإسرائيلية تلتزم الصمت، وتكتفي بالابتسامات حمَّالة الأوجه التي توحي بالتجاوب مع ما يصدر بهذا الخصوص عن بعض موظفي الإدارة الأميركية. ولدى سؤال "أبومازن" عن هذه المسألة قال، إنه لا علم له بما قاله الأميركيون، وقال أيضاً إنه عندما التقى الموفد الأميركي جورج ميتشل آخر مرة أبلغه رسالة فلسطينية إلى إدارة بلاده تؤكد أنه لا يمكن الانتقال من المفاوضات غير المباشرة إلى المفاوضات المباشرة ما لم تلتزم إسرائيل بأن مرجعية هذه المفاوضات (المباشرة) هي حدود الرابع من يونيو عام 1967، وما لم تلتزم بالمتطلبات الفلسطينية المتعلقة بالأمن والحدود والمياه واللاجئين والأسرى.

Ad

لكن ورغم كل هذه "الدَّرْبكة" وهذا التضارب، وأيضاً رغم النفي الفلسطيني فإنه يمكن تأكيد أنه تمَّ إحراز تقدم، كنتيجة للمفاوضات غير المباشرة، بالنسبة للأمن والحدود، والمعروف أن هاتين نقطتان رئيسيتان يشكل التفاهم بشأنهما المدخل الرئيسي للحل المنشود المتفق على أن أساسه إقامة دولة فلسطينية، قابلة للحياة والاستمرار، إلى جانب الدولة الإسرائيلية.

إن كل المفاوضات المعقدة والمتعلقة بقضايا كبرى كالقضية الفلسطينية وكالصراع في الشرق الأوسط تبدأ بهذه الطريقة وعلى هذا النحو، فكل طرف من طرفَي معادلة التفاوض يحرص على إبداء المزيد من التشدد في الظاهر ليظهر خصمه على أنه هو الذي يقدم التنازلات، وهذا حدث في بدايات مفاوضات إنهاء الحرب الفيتنامية، وحدث في بدايات مفاوضات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، والمؤكد أنه يحدث الآن في المفاوضات غير المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وهكذا فإنه يجب ألا يكون مُستغرباً أن يواجه محمود عباس (أبومازن) تفاؤل الأميركيين بعدم علمه بحصول أي تقدم في المفاوضات غير المباشرة، فهو يواجه وضعاً عربيّاً يفْتقر إلى الإجماع الفعْلي والحقيقي تجاه آخر ما توصلت إليه القضية الفلسطينية، وهو يواجه تشظياً فلسطينياً داخليّاً غير مسبوق، وكذلك فإنه يجب ألا يكون مستغرباً أن يواجه بنيامين نتنياهو هذا التقدم الذي يتحدث عنه بعض موظفي الإدارة الأميركية بالرضا الصامت، فهو يريد الانتقال وبسرعة من المفاوضات غير المباشرة إلى المفاوضات المباشرة، وهو في الوقت ذاته يريد الحفاظ على تحالفه الحكومي وعدم إغضاب شركائه في هذه الحكومة، التي أصبحت بمنزلة "بطَّة عرجاء"، وكل هذا يستدعي التساؤل: "أين الحقيقة؟!".