إنه لمن قبيل التبسيط الشديد أن نفسر الموجة الحالية من القلق بشأن اليورو من منطلق المشاكل التي تواجهها اليونان. إن اليونان تعاني مشاكل مالية ومشاكل أخرى متعلقة بالقدرة التنافسية، ولكن اليونان (التي تؤوي 2.25% من سكان الاتحاد الأوروبي) أصغر قليلاً من ولاية كاليفورنيا (التي تضم 12% من سكان الولايات المتحدة). وكاليفورنيا أيضاً تعاني صعوبات مالية هائلة، فضلاً عن انحدار قدرتها التنافسية في بعض الصناعات التي كانت من روادها ذات يوم.

Ad

بل إن المشاكل التي يواجهها اليورو اليوم هي في الواقع انعكاس لمشاكل لم تحل بعد على الصعيدين الأوروبي والعالمي. وهذا يعني أن العملة الموحدة تعمل الآن بمنزلة إشارة تحذير لنظام أسعار الصرف العالمي.

إن اليورو يقيس على وجه الدقة التوترات الدولية الناجمة عن كونه تجربة جريئة: فهو العملة التي لا ترتبط بدولة بعينها، ولكنها تتبع القواعد والمعاهدات الدولية. واليورو نتاج للعقل وليس نتاجاً للسلطة. فهو عملة صالحة لمرحلة ما بعد الحداثة أو ما بعد السيادة. ولكن في أعقاب الأزمات تميل الدول إلى وضع مصالحها الوطنية في مرتبة أعلى من استعدادها لمجاراة القواعد الدولية.

كثيراً ما ينظر المراقبون إلى عملية خلق النقود باعتبارها ضمن نطاق سلطة الدولة: كان هذا هو المذهب السائد في القرن التاسع عشر، والذي بلغ ذروته في نظرية الدولة والمال لرجل الاقتصاد الألماني جورج فريدريك ناب. في العهد الجديد يجيب المسيح عن سؤال حول الطاعة الواجبة للسلطة المدنية فيمسك بقطعة نقدية ويقول للفريسيين (فرقة يهودية قديمة من ألد الأعداء للمسيح عيسى بن مريم): "أعطوا ما لقيصر لقيصر". وخلافاً لأغلب العملات الورقية والمعدنية، فلن نجد صورة للدولة أو رموزها- ولا قيصر أيضاً- على الأوراق النقدية التي يديرها البنك المركزي الأوروبي.

كان نوع من العلاقة الوثيقة قائماً دوماً بين التكامل النقدي الأوروبي والمشاكل العالمية. فقد تصور الأوروبيون أن تقارب بلدانهم جغرافياً وميراثهم الثقافي المشترك من الأسباب التي قد تمكنهم من تقديم الأجوبة حين تصل الحوارات العالمية إلى طريق مسدود. فحين لا تسير الأمور على ما يرام على الصعيد العالمي فقد يكون الحل الإقليمي ممكناً.

كان الدافع وراء قانون التكامل النقدي الأوروبي الأول، أو تقرير فيرنر في عام 1970، نابعاً من الانتباه إلى وجود صعوبات كبرى في نظام أسعار الصرف الثابت الذي تأسس في عام 1944 في مؤتمر "بريتون وودز". ولم يكن بوسع أحد خارج الولايات المتحدة أن يرغم هذا النظام على تقييد سياسته النقدية، التي كانت في توسع مستمر في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، أو سياسته المالية التي كانت تتسم بالعجز المتنامي نتيجة لتكاليف حرب فيتنام.

وكان صناع القرار السياسي في فرنسا يعشقون اقتباس تعليق الشاعر الفرنسي بول فاليري الذي كتب في وسط الفوضى الناجمة عن الكساد الأعظم: "من الواضح أن أوروبا تطمح إلى أن تكون محكومة من قِبَل لجنة أميركية". وبالنسبة للأوروبيين فإن صندوق النقد الدولي، الذي أشرف على ترتيبات أسعار الصرف في عالم ما بعد "بريتون وودز"، كان يبدو وكأنه لجنة أميركية محضة، وهذا لم يعجب الفرنسيين بطبيعة الحال.

كانت الأفكار التي أتى بها تقرير فيرنر أضعف من أن يتسنى لها التعامل مع اضطرابات العملة في أوائل سبعينيات القرن العشرين، ولقد مر عقد من الزمان تقريباً قبل أن تقدم أوروبا استجابة جديدة. فقد بدأ النظام النقدي الأوروبي كردة فعل عالية المستوى لفوضى العملات العالمية، وبصورة خاصة لانخفاض قيمة الدولار في عامي 1977 و1978، والذي بدا وكأنه يهدد دوره المستمر بوصفه العملة الاحتياطية الدولية الرئيسة.

كانت العملية التي بدأت بتقرير "لجنة ديلورز" في عام 1989 وأدت إلى معاهدة ماستريخت في عام 1992، ثم إنشاء عملة اليورو في عام 1999 وتقديمها فعلياً في عام 2002، متأصلة في المحاولة الرامية إلى استنباط الآليات القادرة على توليد نظام عالمي أكثر استقراراً لأسعار الصرف.

وفي أواخر الثمانينيات بدأ المبدعون السياسيون، خصوصاً وزير المالية الفرنسي البالغ النشاط إدوارد بالادور، بالاستعانة بحل دولي وبدؤوا بالدعوة إلى تفعيله على المستوى الأوروبي. وفي اجتماع مجموع الدول السبع لوزراء المالية في اللوفر في فبراير 1987، اقترح بالادور نظاماً لمناطق العملة المستهدفة؛ وحين تبين أن تفعيل هذا الحل كان عامراً بالمشاكل فقد قرر الدفع في اتجاه نسخة أوروبية أكثر تحديداً وإحكاماً من المخطط.

ولقد أسفر ذلك عن حل معيب جزئياً للمشكلة. وكان ذلك راجعاً إلى الاختلاف في وجهات النظر بين فرنسا وألمانيا، الطرفين الرئيسين في دراما التكامل النقدي، بشأن الكيفية التي ينبغي أن يتم بها حل المشكلة. فكان الألمان يؤيدون قواعد مالية محددة بوضوح، لكن بعض البلدان الأخرى كانت تريد مساحة أكبر للحركة والمناورة. وأيد الفرنسيون الحوكمة الاقتصادية الأوروبية إلى جانب الاتحاد النقدي، ولكن ذلك بدا في نظر آخرين وكأنه يفرض قدراً أعظم مما ينبغي من التخطيط الفرنسي. وفي النهاية تم اعتماد نسخة ضعيفة من الحل الألماني.

اليوم، وكما كانت الحال في الستينيات والسبعينيات، أصبحنا في مواجهة مشكلة عالمية جوهرية فيما يتصل بالسياسات النقدية المتضاربة. وآنذاك كان الأوروبيون يشتكون من تسبب أسعار الفائدة المنخفضة في أميركا في ارتفاع مستويات التضخم العالمية؛ والآن توجه أصابع الاتهام إلى أسعار الفائدة المنخفضة في الولايات المتحدة باعتبارها السبب وراء طفرات الأسعار غير المسؤولة.

والواقع أن أسعار الفائدة المنخفضة في الولايات المتحدة، رغم كونها استجابة محلية مناسبة للأزمة المالية، ساعدت في دفع نوع من التجارة حيث يقترض الناس بالدولار من أجل تمويل استثمارات في الأسواق الناشئة الأقل تضرراً بالأزمة. ويتم تمرير هذه الصفقات الضخمة عبر النظام المصرفي الدولي.

إن الحلول لمشكلة عالمية من هذا النوع ليس من الممكن أن يتم العثور عليها على المستوى الأوروبي. بل إن الأمر سيتطلب تنسيقاً عالمياً للسياسات النقدية، فضلاً عن إيجاد شكل من أشكال الحوكمة الاقتصادية العالمية. ولقد جربت أوروبا هذه التركيبة، فوجدت أن تفعليها بالكامل ليس بالأمر الممكن حتى في الإطار الإقليمي. وبدلاً من ذلك فإن الحل المنقوص أسفر عن تفاقم الضعف. والنتيجة هي أن أوروبا جعلت من نفسها الضحية الأولى للأزمة العالمية.

* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة برينستون وأستاذ كرسي ماري كوري للتاريخ بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا. وأحدث مؤلفاته كتاب "خلق وتدمير القيمة: دورة العولمة".

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"