طويت صفحة أخرى من الزمن (2)
"كنت أنام حالماً بنادية لطفي في "النظارة السوداء" وميرفت أمين في "أبي فوق الشجرة"، وأصحو مرتعباً على حقيقة يومي مع نجمة إبراهيم في "ريا وسكينة" وزينات صدقي في "إسماعيل يس طرزان".الشاطئ الطويل الخالي من مطاعم الفاست فود وسيارات الاستعراض الشبابية تتسابق مسرعة ثم تستلقي بجثث أصحابها في حوادث السير لم تكن به في تلك الأيام الضائعة غير بضعة "حظور" (مفردها حظرة) لصيد الأسماك يملكها جيراننا من عائلات عوازم السالمية، ومرات كثيرة كنت أشاهد أحد أولاد المانع أو صديقنا عطية سفر- وكان طويلاً عملاقاً- وهم على ظهر "جالبوت" مركب صغير مصنع يدوياً من التنك والأسفلت الطري لمنع دخول الماء (نطلق عليه اسم طاري)، كان يلقبون "تيتانك" الدمنة "بالتناكه"، كان الطويل الصديق عطية مع شقيقي شملان يحملان فوق "التناكه" قفصاً من أسلاك دقيقة يسمونه "قرقور" توضع فيه بعض الأسماك الصغيرة الميتة وبعض القباقب (سرطان البحر) والشرايب السوداء (قنافذ البحر) تشابه إلى حد كبير "افروديتات" اليوم للبعض من رائدات "مولات" بني نفط.
ويرمى القرقور بالبحر وقت المد... وتربط فوقه بحبل قطعة خشب أو فلينة- لا أذكر تماماً- وتترك كوسيلة استدلال على مكان القرقور... ثم يعودون إليه بعد مدة لإفراغه من صيد اليوم... لا أذكر عدد المرات التي غزوت فيها تلك "القراقير" غائصاً هارباً من الملل، لا لأفرغها من جوفها من الصيد فهي ملك لأصدقاء وأقرباء... ولكنها كانت وسيلتي للتسلية بالعبث بها... ثم أصعد بعدها إلى سطح البحر... أبحث عن سمك حي له جسد كامل الدسم الإنساني يشبع نهمي المجنون... لكن لم يكن هناك شيء غير أمواج الخليج الواهنة يتلألأ فوقها ضوء شمس يخفت وهج حرارتها وقت ساعات العصر وقبيل الغروب، تظهر كأنها أهلة من الفضة اللامعة طفت بهدوء فوق سطح الركود... بأي قدر وبأي حق كتب علينا في أيام الحرمان تجرع كؤوس المرارة في ذلك الزمن الماضي... التي عادت إلينا اليوم أكثر ضجراً وسأماً... فأعود وأسرح بذكرياتي وأسأل عمن يفرض علينا حكم القهر... ومن يمارس اليوم حريته ويسلب حرياتنا في الوجود... في البهجة... في لمحة الشباب... وفي ضجر الكهولة. مضت الأيام مسرعة تقضم بنهم من سنين العمر.وحدث في أول سنة بكلية الحقوق بالجامعة أن تحدث الكثيرون عن "ثورة الشباب" عام 68 في فرنسا... وفي الولايات المتحدة... كان فكر المؤسسات الحاكمة وقيمها محل رفض عند شباب تنبض عروقهم بالعشق وقلب الدنيا على عوالم مؤسسات النظم، وما يفرض من السلطات الحاكمة، ووقف فلاسفة مثل ميشيل فوكو وسارتر سنداً لها، وغنى معها مطرب البيتلز جون لينون الذي قتل في بداية الثمانينيات... في تلك الأيام أحرقت السيارات والمحلات في باريس وانقلبت الأحوال، وأسقط الجنرال ديغول في استفتاء لاحق... لم يرحم شعب فرنسا محرره الإنسان الكبير... فتلك شعوب لم تكن تدين بغير دين الحرية، وولاؤها للجمال ولآمال الشباب العريضة لا للعطايا وشراء الولاءات، وفي الولايات المتحدة كان هناك نوع آخر من العنف ضد العنصرية... كان العالم يغلي ويموج بينما كنا نتجرع ذيول هزيمة حزيران المنكرة... ورحيل الحلم القومي العربي إلى غير رجعة... لينهض بعدها شعار "الإسلام هو الحل"... فبعد عبدالناصر يأتي الظواهري... وبعد بن بللا قدم بن لادن.أطلقوا على ثورة الشباب "ثورة الجنس" في فرنسا... أما في الكويت... فتحركنا بعدها بسنة للمطالبة بالاختلاط في الجامعة... ولم نعرف من إرهاصاتها غير مسيرات بسيطة لمجلس الأمة ومحاضرة تشرح حركة ثورة الشباب في العالم من الدكتور اللبناني الراحل حسن صعب ألقاها في مدرج بكلية التجارة والاقتصاد... قدم المحاضر حسن مدير الجامعة المرحوم د. عبدالفتاح إسماعيل... أطال مدير الجامعة الحديث لتعريفنا بالمحاضر الكبير... مللنا... كنا ننظر إلى مدير الجامعة على أنه المتحدث باسم المؤسسة المحافظة التي تفرض العزل بين الجنسين وتجتر الخطاب الرسمي الممل والمكرر للدولة بمجلسيها النواب والوزراء... فقاطعه الطالب عدنان حسين بعبارة: يا دكتور لم نأت هنا لنسمعك... جئنا لنسمع الدكتور حسن صعب...خجلت قليلاً من "دفاشة" (غياب الحلم) عدنان وهمست عندها ابنة العم نسيبة عبدالعزيز المطوع لعدنان... اص... عدنان... اصبر... عيب...! لكن كان عدنان ونحن وأوهامنا كما حاضر عنها حسن صعب في واد، وكان الواقع الحاكم في وادٍ آخر... مضت تلك الأيام... ولم نعد نملك منها غير فقاعات صغيرة في بحر الذكريات... ويظل الزمن يمضي والمكان يذوي ويزول ونزول معه، فلسنا في النهاية غير ذرة مكان في كون بلا نهاية ولا بداية.