في أحاديث العمق الفتحاوي يبدو أن «فتح» صارت «فتْحين»: الأولى تتمسك بزعامة محمود عباس حتى الرمق الأخير، ويقود هذا الجناح ياسر عبد ربه، والثانية تدعو إلى حركة إصلاحية شاملة تشمل قياديي الصف الأول والثاني والثالث. حجة الفريق الأول أن بقاء عباس، في ظل ما يطرح من حلول سلمية، أكثر من ضروري لأنه يمسك بأوراق المجتمع الدولي، وينال ثقة هذا المجتمع، وبالتالي فإنه بمنزلة الوجه الباسم لحركة المقاومة الفلسطينية التي عانت كثيراً اتهامات القريب والبعيد بالإرهاب وبالأعمال التخريبية في ظل قيادة ياسر عرفات وأبو جهاد وأبو إياد وغيرهم من الأبوات الذين أطلقوا حركة المقاومة الفلسطينية في منتصف الستينيات.

Ad

أما الفريق الآخر، وهو متشعّب الزعامات، فإن منطقه يدعو إلى الاعتراف بجهود أبو مازن (عباس) خلال مرحلة اتفاقات أوسلو وما بعدها، أي منذ بداية التسعينيات إلى الآن، لكنه يقول إن مرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي قد وُلدت اليوم، وهي تتطلب تغييراً جذرياً في أساليب التعامل مع الخصوم ومع الأصدقاء على حد سواء، وبصورة خاصة تغيير في وجوه قيادات الصف الأول للحركة.

ويضيف هؤلاء في نقاشهم المستتر خلف غرف ونوافذ مغلقة أن أبو مازن لا يملك لا القدرة ولا الموهبة في قيادة الحركة في هذه المرحلة الجديدة التي يمكن اعتبارها- من وجهة نظرهم- الفصل الأخير في محاولات إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية مرة واحدة وأخيرة، ولا ينسى هؤلاء من فتح «خزانة الذاكرة» فيشيرون إلى أن أبو مازن هو الذي قاد حركة «فتح» في ذلك الوقت إلى المراهنة على اتفاق أوسلو، وأنه شخصياً ترأس المفاوضات مع الإسرائيليين في أواخر الثمانينيات والتي بدأت في لندن بصورة سرية حتى عن الأميركيين، بناء على طلب المفاوض الإسرائيلي، قبل أن تنتقل إلى أوسلو وغيرها من عواصم الغرب بصورة علنية. ويؤكد هؤلاء أن عرفات لم يكن على علم باجتماعات لندن التمهيدية وعندما أبلغه أبو مازن بالموضوع طلب منه أن يستمر في الاتصالات رغبة منه في كشف أوراق الإسرائيليين. واتفق الاثنان على إبقاء مفاوضات أوسلو بعيدة عن مسامع القياديين الآخرين، وبالأخص أبو إياد وابو جهاد. وعندما عرف أبو إياد بالموضوع، وكانت مفاوضات أوسلو السرية قد وصلت إلى منتصف الطريق، ثارت ثائرته لأن عرفات وعباس أخفيا الأمر عنه، وكان واجبهما أن يبلغاه بالتفاصيل، لا أن يعرفها من نبيل شعث بطريق المصادفة.

وقد قال لي بعض هؤلاء إن ثورة أبو إياد بلغت حداً دفعه إلى التهديد بقتل عرفات وعباس معاً، لكن الإطفائي الكبير عرفات عرف كيف يعالج الوضع واستطاع أن يهدئ من ثورة أبو إياد، وبالتالي أن يقنعه بفوائد لقاءات أوسلو مع الإسرائيليين وبالتالي الموافقة على الاتفاق على أساس أنه- أي الاتفاق- يخرج «فتح» من عزلتها القاتلة في تونس، ويعيدها بصورة شرعية إلى داخل الأرض الفلسطينية. في حينه ذكر لي عرفات في لقائي معه في تونس: «عندما أصل إلى الداخل سأحرم عيون الإسرائيليين النوم»، وكان عرفات أميناً في قسمه، فالأحداث التي تلت عودته إلى الأرض المحتلة تشهد على ذلك، إلى أن غيّبه المرض أو القتل المبرمج أو الاثنان معاً عن ساحة النضال. وتبعه أبو إياد وأبو جهاد حيث أصبحت الساحة خالية لمحمود عباس. وفي حينه، لم يستطع أبو عمار إقناع فاروق القدومي (أبو اللطف) بترك تونس والعودة معه إلى الأرض المحتلة، وكان القدومي بعيد النظر برفضه الموضوعي لتلبية هذه الدعوة حيث قال لعرفات: «دعني خارج إطار أوسلو كي أنقذك عندما تتبين خديعة إسرائيل». ومنذ ذلك الحين والعلاقات الشخصية، وربما النتظيمية أيضاً، صارت شبه مقطوعة بين ما تبقى من قياديي الصف الأول.

ما يجري اليوم داخل الغرف والنوافذ المغلقة بين جناحي «فتح» يشكل خطورة على مستقبل الحركة برمتها، فالانقسام في الرأي، وفي تحليل أبعاد المرحلة الجديدة، دفعت الجناح المعارض لعباس إلى المطالبة بتنحيه عن رئاسة السلطة وعن مراكزه القيادية الأخرى، وبمعنى أوضح فإن المطلوب أن «يتقاعد» عباس، لأنه- كما يقولون- سوف يجرّ معه «فتح» ومنظمة التحرير إلى الهاوية، وأن تنحيه من شأنه أن ينقذ ما يمكن إنقاذه من تاريخ ومستقبل حركة المقاومة الفلسطينية الكبرى، ويقولون أيضاً إن عباس لا يستطيع أن يكون رجل الصراع الجديد مع إسرائيل، ليس نظراً لإعلان «أبوّته» لأوسلو وما نتج عنه من حلول سلمية وهمية أخرى، بل لأن «تركيبته» النفسية لا تؤهله لإعادة تيار المقاومة إلى مجراه الطبيعي، فالرجل مازال يعتبر أن اتفاق أوسلو مازال حياً، ولا يعترف بأن «خطة الطريق» التي تمّ الاتفاق عليها مع «اللجنة الرباعية» الدولية قد تخطاها زمان أولمرت ونتنياهو، وأن الولايات المتحدة التي راهن عليها عباس- ومازال- تقف عاجزة عن إقناع إسرائيل بأدنى المطالب الفلسطينية، وأن مصر حسني مبارك تمتنع إلى اليوم عن استخدام أوراقها القوية والحاسمة مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة لدعم بقائه، ويتنبأ هؤلاء بأن عباس بدأ يعي هذه الحقائق، وأن زيارته لواشنطن واجتماعه بالرئيس الأميركي في (28 مايو) الماضي قد تكون الأخيرة، لأن عباس أظهر أمام الرئيس المصري، قبيل توجهه إلى واشنطن، ضيقه الشديد من الوضع وذكر له ما معناه: سأذهب لأستمع إلى أوباما وبعدها سأتخذ القرار النهائي. وعباس، ذلك المناضل التاريخي، يفضل حرصاً على تاريخه المقاوم، أن يذهب هو وأن تبقى حركة «فتح».

بتاريخ (21 مايو) الماضي كتبت «النيويورك تايمز» تقريراً لمراسلها في رام الله حول الصعوبات الكبرى التي يواجهها محمود عباس، وحول انفضاض مجموعته من حوله، ونقلت تصريحاً لقدورة فارس، وهو واحد من المنادين بضرورة التغيير، وله نفوذ ملموس في أوساط حركته «فتح» حيث قال: «نحن في سفينة على وشك الغرق. علينا أن نستيقظ ونتوقف عن الكذب على أنفسنا. نحن ندعي أن «فتح» حركةديمقراطية، ولكن أي حركة ديمقراطية لم تجمع مسؤولي كوادرها منذ 20 عاماً لمناقشة الوضع؟». بسام ولويل وهو ناشط سياسي تحول إلى رجل أعمال ويلعب دوراً بارزاً في إعادة هيكلة «فتح» من القمة إلى القاعدة قال للجريدة الأميركية: «فتح كانت تعتمد على شعار الكفاح المسلح مع حكومة تنهي الفساد وتدعو إلى الديمقراطية. الكفاح المسلح غاب عن الشعارات وبقي الفساد من دون ديمقراطية». ويعطي كاتب المقال نصيحة لإسرائيل بضرورة المساعدة على عدم تشرذم «فتح» ولو أدى ذلك إلى اختفاء عباس عن صورة القيادة، لأن استمرار وجود «فتح»، بعباس أو من دونه، يشكل الشريك الفلسطيني القوي الذي تطلبه إسرائيل في المفاوضات المرتقبة. ويلوم الكاتب إسرائيل على وضعها العراقيل أمام عقد مؤتمر «فتح» العام في الضفة الغربية بواسطة وضع «فيتو» على دخول عدد كبير من كوادر «فتح» إلى الضفة معتبرة أن عقد هذا المؤتمر الفتحاوي قد يكون أداة لعزل أو اعتزال محمود عباس وجماعته القليلة العدد.

تشير الأنباء الخاصة أن الرئيس أوباما تبادل الشكوى مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال لقائهما الأول في واشنطن في نهاية الشهر الماضي، وكان أوباما أول من بدأ بطرح شكواه حول صعوبة أزمة الشرق الأوسط «التي تزداد تعقيداً في كل يوم بل في كل ساعة» خصوصا في ما يتعلق بالموقف المتعنت الذي أبداه نتنياهو بشكل خاص، والإدارة الإسرائيلية بشكل عام. وفي التحليل الموضوعي فإن أوباما رغب في أن «يوفر» على عباس إبداء شكاواه فكان هو البادئ بالشكوى من تصرفات إسرائيل. غير أن الرئيس الأميركي، حسب المصادر الفلسطينية الخاصة التي رافقت عباس إلى العاصمة الأميركية، أكد نقطتين رئيستين: الأولى التزامه الكامل بالسعي إلى حل الأزمة على أساس إقامة الدولتين «مهما كانت الصعوبات» والثانية ضرورة بقاء عباس كمفاوض فلسطيني رئيسي وأساسي. وقد جاء هذا التأكيد إثر شكوى عباس لأوباما بأن وضعه الخاص كرئيس للسلطة وكزعيم لحركة «فتح» بات قاب قوسين من الانتهاء «إلى درجة قد تدفعني إلى الاستقالة»، وأنه بحاجة ماسة إلى أن تعطيه واشنطن شيئاً لتهدئة الوضع الفلسطيني وبالأخص الوضع الفتحاوي. وأبدى أوباما تفهمه الخاص لشكوى عباس واعداً بأن جرعة كبيرة من التهدئة سوف تُعطى خلال جولته في الشرق الأوسط التي تبدأ بزيارة السعودية في الثالث من حزيران/يونيو ثم القاهرة وربما بعض العواصم العربية الأخرى.

واستنتج عباس أن كل ما طلبه أوباما هو المزيد من الصبر ومن الوقت، وقد اتفقا على ذلك. أما كيف سيستخدم أوباما هذا الوقت وذاك الصبر لإقناع نتنياهو فهذا ما لم يقله أوباما، لأن عباس لم يطرح عليه السؤال بهذا المعنى، وهكذا فإن على العرب أن يمنحوا الإدارة الأميركية مزيداً من الصبر الجميل بانتظار حدوث المعجزة في زمن اللامعجزات.

* كاتب لبناني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء