مفارقة محزنة
بقدر موقفي الواضح من قضية حرية التعبير، واعتراضي الكامل على قيام سمو رئيس الوزراء برفع دعاوى قضائية ضد منتقديه، إلا أن المفارقة التي حدثت مساء الاثنين ببعدها الرمزي ذهبت بي إلى أبعد من ذلك بكثير. كان موقفاً تجلى فيه الزمان والمكان والتاريخ والصورة. كان الحدث في منطقة النزهة في مقر التحالف الوطني الديمقراطي للتضامن مع سجين الرأي خالد الفضالة الذي تم سجنه بسبب دعوى رفعها سمو رئيس الوزراء بزعم أن ما قاله كان يمثل سباً وقذفاً.
الحضور كان حاشداً ومتنوعاً بكل معنى الكلمة، اتجاهات، أعمار، رؤى. كان تجمعاً عاكساً بحق تشكيلة المجتمع، وكانت الكلمات التي قيلت بشكل عام موزونة ومركزة. طلب مني الصديق القديم الدكتور سند الفضالة الحديث، ولم أكن أدري عمَّ سأتكلم، فقد شعرت بأننا نكرر أنفسنا، إلا أن المكان والزمان فرضا نفسيهما على الحدث. ولذلك حكاية جعلتني ربما لا أدخل مقر التحالف منذ أن استأجروه قبل فترة من الزمن، حيث كنت أسترجع ضحكات وآمال الأصدقاء الذين اختطفتهم يد الغدر قبل عشرين سنة. ففي ذات المنزل قبل عشرين عاماً بالتمام والكمال وأثناء الاحتلال العراقي للكويت اجتمعنا في ذات المبنى، كنا مجموعة من الكويتيين الصامدين، كما كان يطلق علينا حينئذ، كان ذلك في شهر أكتوبر. قيادة المقاومة من الأسرى الشهداء: يوسف المشاري الذي كان يقضي إجازته خارج الكويت فأبى إلا أن يدخل الكويت كأي إنسان وطني مخلص، وعبدالوهاب المزين الذي كان قد عاد للتو ودخل تهريباً من السعودية، ومحمد البدر أطال الله في عمره... وغيرهم. وأثناء الحديث نبهنا محمد البدر إلى ضرورة الخروج من المنزل لاستشعاره الخطر، ولذلك تفاصيل كثيرة قد نرويها لاحقاً. وهكذا بدأنا بالخروج، محمد البدر ومحمد القديري وأنا إلى المنزل المجاور، وبدأ الآخرون في التأهب للحاق بنا. ولكن خلال دقائق تم تطويق المنزل واعتقال جميع مَن فيه، وتمكنَّا نحن الثلاثة من الفرار بعد أن تسورنا السور الخلفي للمنزل المجاور. عاد من المجموعة ثلاثة هم عبدالله الجيران وعبدالله السبت وعبدالسلام السميط، أما الباقون فنحتسبهم عند الله شهداء والحمد لله على كل حال. لو كان خالد الفضالة قد سلَّم نفسه في سكنه في مشرف لما كان هناك رابط رمزي بين الحدثين. لأمر ما، ربما كان إلهاماً، سلم خالد نفسه في ذات المكان ولربما كان يهدف إلى تسليم نفسه لرجال الأمن في مقره السياسي الذي يشغل منصب أمينه العام... "الربمات" كثيرة، ولكن النتيجة التي لا يمكن أن تفوت دون أن تهزني، هي أنه كيف بعد عشرين سنة، وفي ذات المكان الذي تم فيه القبض على قيادة المقاومة الكويتية، في ذات المنزل، يتم فيه اعتقال شاب كويتي وطني مثل خالد الفضالة من رجال الأمن الكويتي بسبب دعوى من سمو رئيس الوزراء. مفارقة محزنة، بل مفزعة، مرت بخاطري، وتحدثت فيها بإيجاز شديد، وحيث إنني كنت شاهداً على الحدثين، كانت الإشارة إليهما واجبة دون إفراط أو تفريط أو مقارنة، ولكن البعد الرمزي يفرض علينا أن نتمعن في أين كنا وكيف أصبحنا، وإلى أين نحن سائرون؟