تقول المادة الثانية من الدستور «دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع»، وقد حمَّلت المذكرة التفسيرية المشرع أمانة الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية ما وسعه ذلك، ودعته إلى هذا النهج دعوة صريحة واضحة، كما لم يمنع نص المادة من الأخذ، عاجلا أو آجلا، بالأحكام الشرعية كاملة وفي كل الأمور، إذا رأى المشرع ذلك.

Ad

هذه المادة الدستورية، وعلى الرغم من شهرتها، فإنها في تصوري أكثر المواد غربة في الدستور، لأنها وعلى الرغم من عزف الإسلاميين على وترها حين تغيب الشمس وعند طلوعها، وتصدي الليبراليين والعلمانيين لهم في كل مرة لكفهم عن العزف، لم تحض يوما بالوقوف الموضوعي عند معانيها ولا بالبحث في مدلولاتها ومقتضياتها.

وسأتوقف هنا وقبل الاسترسال، لأقول بأني ما عدت من الميالين لاستخدام لفظة الإسلاميين، لما فيها من نزع صفة الإسلام عن الآخرين، إلا أنني، والحق ما أقول، لم أجد بديلا عنها، فلفظة «الإسلامويين» لفظة غريبة خرقاء غير واضحة الدلالة، يلتف بها اللسان عند النطق ولا تروق لي، ولذلك فليس لي بد من استخدام لفظة «الإسلاميين» خصوصا أنه قد تعارف الناس عليها، وكذلك فلست من الميالين في المقابل كثيرا لاستخدام لفظة الليبراليين، لأن من تطلق عليهم هذه الصفة ليسوا كيانا واحدا متشابها، بل إن فيهم من لا يدري ما الليبرالية أصلا، وفيهم كذلك من امتطى ظهرها لتعطيه الفسحة لممارسة الانحلال الأخلاقي لا أكثر، ولكن على أي حال، فلا محيص من استخدامها فليس عندي غيرها، كما أن القوم قد تعارفوا عليها أيضا. أعود لأكمل... بالرغم من إصرار الليبراليين، والعلمانيين دائما وأبدا، بأنهم دعاة الدولة المدنية، القائمة على الدستور والمتمسكة بمواده وأحكامه، فإنهم، كما أرى، لا يعترفون على الإطلاق بهذه المادة التي جاءت مباشرة في الدستور بعد مادة سيادة الدولة، وقد يتكلمون عن كل شيء إلا هذه المادة، وكأنها غير موجودة، أو أنها عبارة شكلية وضعت هكذا لملء المساحة!

أقول هذا متهكما، لأنه لم يمر علي يوماً أحد منهم، خصوصا من القانونيين والدستوريين، من أعطاها حقها الموضوعي في التناول، فشرح لنا وبالضبط، ما المقصود بأن دين الدولة الإسلام؟ وبأن الشريعة مصدر رئيسي من مصادر التشريع؟ وما الذي عناه الآباء المؤسسون من تحميل المشرع أمانة الأخذ من الشريعة ما وسعه ذلك؟!

فهمي الشخصي لهذه العبارات، هو أن تقوم قوانين الدولة وأحكامها على الإسلام، وأن يتم استنباطها من الشريعة الإسلامية ما وسع المشرع ذلك، ولهذا فلا أدري، إلى أي أساس دستوري قانوني يستند البعض في دعوتهم لعزل الدين عن الدولة عزلا كاملا، وأقولها صادقا، بأني أرغب بالفعل بمعرفة كيف يمكن هذا في نظر هؤلاء في ظل وجود هذه المادة الصريحة المباشرة في الدستور. على الضفة الأخرى تماما، يقف الإسلاميون في موقف محير، لي شخصيا على الأقل، تجاه هذه المادة، حيث يتعاملون معها كراية يلوحون بها، في الطالع والنازل، لا أكثر. وأعني بهذا أنه لم يمر علي أيضا من الإسلاميين من تناول المادة في إطارها الدستوري القانوني، مكتفين بكونها تقول إن دين الدولة الإسلام، وإن الشريعة مصدر رئيسي من مصادر التشريع، ظانين أن هذا كاف بذاته لينزل القوم عند مقتضاها وأمرها. بل يكاد يخيل إلي أن بعضهم يتعامل معها وكأنها نص شرعي، مفترضا أنها يجب أن تكتسب صفة القداسة التلقائية لمجرد ورود لفظتي الإسلام والشريعة فيها! المادة الثانية من الدستور هي في نهاية المطاف مادة دستورية وضعية، لها مدلولات وأبعاد لا تتعداها، ومن الواجب على الإسلاميين التعامل معها على هذا الأساس، والسعي بكل الطرق المكفولة لاستيضاح وتوضيح هذه المدلولات والأبعاد وعلاقة هذه المادة ببقية مواد الدستور، وبالأخص بمواد الحريات الشخصية التي يتذرع بها الآخرون، وبعد ذلك وضعها، وبالإلزام، محل التطبيق عبر كل ممارسات ومشاريع قوانين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وأقول هنا، إنها توضع محل الإلزام ليس لأنها مادة الإسلام والشريعة، إنما لأنها مادة دستورية يجب أن تكون ملزمة كبقية المواد. لقد صار من اللازم على الإسلاميين اليوم تغيير برمجتهم العقلية السائدة، والإيمان بأن الكويت دولة مدنية دستورية في المقام الأول، لكنها دولة، ولا تعارض في ذلك عندي، يقول دستورها بكل وضوح وصراحة بأن دين الدولة الإسلام وأن الشريعة مصدر من مصادر التشريع، وأن يدركوا أن هذه المادة، في حال تفعيلها «دستوريا»، هي مدخلهم السليم والصحيح لتطبيق شريعة الله شيئا فشيئا في سائر المناحي.

لا سبيل إلا أن يكون هذا، على ما فيه من استفزاز، أدركه وأعرفه، للمسلمات والقطعيات الدينية التي يؤمن بها الإسلاميون، لأن الطريقة السابقة من محاولات فرض الرؤى الدينية على الواقع إلزاما، لم تجد نفعا ولم تصل إلى أي نتيجة كما أظهرت لنا التجارب.

خلاصة القول إنه قد كان الصراع وسيستمر عندنا بين الجانبين، الليبراليين والعلمانيين من ناحية والإسلاميين من الناحية الأخرى، في محاولة من كل جانب منهم لفرض رؤاه وقناعاته على الواقع، لتبقى المادة الثانية من الدستور إما منكرة غريبة عند هؤلاء وإما مجرد أيقونة رمزية يلوح بها هؤلاء، وفي كلتا الحالتين ظلت بلا مدلول دستوري واضح!