لم نسمع... ولم نرَ... إذن فلن نتكلم عن استجوابات الثلاثاء الغامض، يقولون «يوماً تاريخياً» و»يوماً ديمقراطياً» و»إنجازاً عظيماً»، وكثرت التهليلات والتبريكات بسابقة صعود رئيس الوزراء منصة الاستجواب، فهل سمعتم أيها المهللون؟ وهل رأيتم أيها المطبلون؟ إذن كيف تحللون وتفسرون؟ وكيف تهنئ الأغلبية الحكومية في البرلمان بعضها بعضاً على «تكريس الديمقراطية» وانتصارها؟ فهل سمعتم عن ديمقراطية غير شفافة؟

Ad

يالسخرية القدر، لنتكلم إذن عن المنطق والسفسطة مادام المنطق لا يخضع لتحليلات اليوم، وهذا يجرَّنا إلى سؤال سألته سهير البابلي في «مدرسة المشاغبين»: «ما هو المنطق؟» ليجيبها سعيد صالح: «لما تضرب واحد ويقع ما يحطش منطق».

فالسفسطة، ليست هي ما اشتهرت به من جدل عقيم وكلام مبهم حتى أضحى كل من يستخدم عقله أو يتمنطق يوصف بالسفسطة وكأنها سُبّة أو تهمة، بل هي في الواقع فلسفة مناقضة للمنطق القديم الذي يدافع عن الحقائق الثابتة التي لا تتغير، إذ تعتمد السفسطة على منطق النسبية المتواضعة غير المنافقة التي تؤمن بالحركة والتغيير، وأن «الإنسان مقياس كل شيء»، فالعقل البشري مقيّد بسلاسل وقيود اجتماعية ونفسية تجعله يرى الحقيقة من زوايا مختلفة، فالصالح في رأيي طالح في رأي غيري والعكس صحيح، وكل صاحب رأي من الآراء يرى أن الحق معه مردداً: لو سمع وفهم الطرف الآخر رأيي لساد العدل العالم!

لا يدّعي الفلاسفة أن السفسطة كاملة لا عيوب لها وإلّا ناقضوا ما يدعون إليه، ولكنها حسب د.علي الوردي «فلسفة ذات أهمية اجتماعية لا يستهان بها، ومن سوء حظها وحظ البشرية، أنها غُلبت أو قتلت في مهدها، فأصبحت محتقرة، والمغلوب محتقر دائماً، ولذا أخذ المفكرون ينسبون إليها كل نقيصة، ويجردونها من المحاسن، ومن محاسنها أنها كانت تنتقد عبادة الأوثان التي كانت تزخر بها ديانة الإغريق القدماء»، فحين ثارت ثائرة المحافظين على التراث والمدافعين عن الحقيقة كما يرونها، «هب السفسطائيون في وجوههم قائلين: ما الحقيقة؟».

إذن فالمنطق الأفلاطوني المثالي الاستعلائي الذي قلل من قيمة الفرد والعامة، والذي وضع الفلسفة في برج عاجي عالٍ يتحذلق به المترفون انتصر على السفسطائيين المتواضعين الذين كانوا يجوبون الشوارع (في العصور اليونانية القديمة) ويشرحون الفلسفة بشكل مبسط وينشغلون بهموم الناس ويأخذون من تعليم الجدل للعامة مهنة وحرفة، فالسفسطة على عكس ما يعتقد الناس هي ليست نخبوية ولا تُعنى بالوعظ، إنما بالنقد وشتان بين المنطقين.

يؤمن المنطق الأفلاطوني (أو الأرسطوطاليسي) بالعدل كفكرة مجرّدة قائمة بذاتها، أما المنطق السفسطائي فيؤمن بأن العدل هو نتيجة لتفاعل البشر وتطور التاريخ... فبروثاغورس السفسطائي يقول «إن قيمة الأشياء نسبية... فليس ثمة شيء خير من نفسه أو شر في نفسه، وإنما هو خير وشر وعدل وظلم». والناس يظلمون من حيث لا يدرون بينما يعتقدون أنهم يعدلون، فالتحيز طبيعة بشرية أما الحياد والموضوعية فهما الاستثناء.

وقد وضح د. علي الوردي قبل أربعين سنة أن النظام السياسي الحديث قام على هذا المبدأ السفسطائي «ولهذا قامت الأحزاب المتعارضة وظهرت المناقشات البرلمانية المتشادة. ولولا ذلك لبقي الحكام ينهبون أموال الأمة ويظلمون الرعية، وهم يعتقدون أنهم يحكمون بأمر الله». فالمنطق السفسطائي الذي حورب وهوجم من قبل المنطق الأفلاطوني ظهر حين كانت الديمقراطية «الأثينية» أكثر قوة، بسبب تزايد الحاجة إلى تعلم فن الجدل والإقناع، ولكن المنطق الأفلاطوني قضى عليها لعدم إيمانه بالديمقراطية، ليعيد فلاسفة عصر النهضة الأوروبية إحياءها من جديد، وليصبح الإنسان قيمة القيم، وليظل صراع المنطق الأفلاطوني والمنطق السفسطائي قائماً حتى اليوم.

فالسفسطائيون لا يهتمون بحشو المعلومات قدر اهتمامهم بطرائق التفكير الحر ولا يقدمون أجوبة معلبة مغرورة، بل يطرحون أسئلة نقدية متواضعة لا يملكون في كثير من الأحيان جواباً لها سوى «لا أدري»... تماما كما سيجيب السفسطائيون عما حدث في جلسة الثلاثاء الغامضة من دون إطلاق أحكام مسبقة بأنهم «لا يدرون»!