إذا سمعت، يوما، أن كاتبا عربيا ناجحا أصبح يعتمد في معيشته على مبيع كتبه، فينبغي أن تفرك عينيك جيدا، لكي ترى أن زمنا عربيا جديدا قد بدأ في غفلة منك، وأن قيما جديدة رائعة قد وفدت معه واستقرت على كل صعيد.

Ad

ولأنك لن ترى هذا المستحيل، حتى لو محوت عينيك من شدة الفرك، فكن على ثقة من أن ما سمعته يتعلق بكاتب عربي يكتب بلغة أجنبية ويتعامل مع ناشر أجنبي، وعندئذ سوف لن تحتاج لمن يترجم لك هذه الأعجوبة، لأنها في سياقها هذا ليست أعجوبة، بل هي طريقة حياة مألوفة.

الكاتب الأجنبي لا يختلف عن الكاتب العربي في مسألة المعاناة الإبداعية، أو مسألة البحث عن ناشر، لكنه يختلف عنه، كل الاختلاف، عندما يتأكد الناشر من جودة إبداعه فيبادر إلى نشره.

وجه الاختلاف هو أن الكتاب ما إن ينجح ويحقق ربحا للناشر حتى يمد بساط الكفاية المالية للكاتب تلقائيا، فيجعله (مستقلا) بمعنى الكلمة، وهو معنى لا يستطيع الكاتب العربي أن يدعي امتلاكه حتى في الحلم.

أعرف أن الكاتب البريطاني (وليم بويد) قد بعث في بداياته بمجموعة قصص إلى عدد من الناشرين، وادعى كذبا أن عنده رواية أيضا، أحداثها مستوحاة من وقائع ظروف شخصيات قصصه القصيرة.. وحدث أن أحد الناشرين أعجب بتلك القصص، فأبدى موافقته على نشرها، لكنه تمنى أن يبدأ، أولا، بنشر رواية بويد المزعومة، فطلب منه إرسالها إليه في أقرب وقت ممكن.

هذه الموافقة المبدئية على النشر، كانت كفيلة وحدها بنفخ دم السباع في عروق بويد، فلم يتردد، مطلقا، عن الاستقالة من التدريس (مصدر رزقه الوحيد) ليغلق على نفسه الباب، ويعكف طيلة ثلاثة أشهر على إنجاز روايته التي لم تكن، في الأصل، إلا وعدا كاذبا.

ويعد صدورها.. لم يعد بويد بحاجة إلى أحد.

قارن هذه الحالة بحالة أي روائي عربي، فماذا عساك أن تتخيل؟

أنا مثلا، أتخيل رجلين، كلاهما منهمك في تجميع المناديل... الأول لتجفيف دموع فرحته بالاستقلال، والثاني لمسح غشاوة (تراب الميري) الذي يتمرغ فيه!

في الإصدار الرابع لعام 2002 من مجلة مكتبة (ووترستون) الفصلية، تأملت رسما بيانيا لما حصل عليه بعض المؤلفين من حقوق الكتاب الأول لكل منهم، سواء المتحققة من طبعته البريطانية أو طبعاته الخارجية، فلم أملك إلا أن أعلق على أعمدة الرسم البياني تساؤلا مبطنا بإجابته المرة: كم كسب العم نجيب محفوظ من حقوق أكثر من خمسين كتابا ظل يجرها طول عمره، وهو متعلق بقطار (الميري) الذي لم يفته لحسن الحظ؟!

في الرسم البياني للمجلة تفاوت في المبالغ المحصلة، لكنني على يقين من أن الكاتب العربي يتمنى أن يتبرك ولو بمسح يديه على بلاطة أدناها.

كتاب إيمي جنكنز (شهر العسل) مثلا، لم يحصل، واحسرتاه، إلا على ستمئة ألف جنيه إسترليني.. لكن ما يبدد شيئا من الحسرة، أن كتاب بول إيدري (شرارة) قد تجاوز المليون بمئتي ألف جنيه.

والحسرة المقصودة في كلامي هي حسرة أولئك الذين لم يبلغوا أو لم يتجاوزوا المليون بعد، أما حسرتي أنا على أحوال الكاتب العربي، فهي، ولله الحمد، في الحفظ والصون.. والنمو أيضا.

إن أول نصيحة يوجهها الكُتّاب الكبار عندنا للناشئة الذين يريدون احتراف الأدب هي: قبل كل شيء، ابحث لك عن مهنة تعيش منها، لأن مهنة الأدب وحدها لن تطعمك إلا الجوع. لذلك فإن تعبير (قادة الرأي أو الفكر أو الأدب) لا يستقيم عربيا إلا إذا وضع في قائمة (الكوميديا السوداء)، لأن إنسانا يحيا ويموت تابعا لسلطة أو لحزب أو في أحسن الأحوال لوظيفة، ربما لن يتسنى له أن يقود حتى قطيعا من الخراف!

القايدة تحتاج إلى شعور بالحرية، والحرية تحتاج إلى إحساس بالاستقلال، والاستقلال يقتضي، قبل كل شيء، ألا تكون لقمة الكاتب في يد غيره، وهو ما يملكه الكتّاب العرب جميعا، شأنهم في ذلك شأن صاحبهم شاعر العصر المملوكي أبي الحسين الجزار- الذي يعمل جزارا بالفعل- إذ شكا بعدما أدركته حرفة الأدب قائلا: (كان فضلي على الكلاب فمذ صرت أديبا رجوت فضل الكلاب)!

وهي شكوى لم تعرفها- على حد علمي- شفة أي راقصة شرقية، أو حنجرة أي لاعب (إكروبات) ممن تعارفنا، في زمننا البهيج، على تسميتهم بنجوم الغناء.

فأن يستجدي الأديب، فهذه هي الأصول.. أما أن يعتاش من أدبه، فيا للعار. ستسمع الف صوت أخلاقي يطن في أذنك متسائلا بغيرة: (أهذا أديب أم تاجر؟).

ولأن الأصوات لا تصغي، فمن العبث أن تحاول إقناعها بأن الأدب عندما يتحول إلى كتاب يدخل تلقائيا إلى ميدان الصناعة، وهو ميدان تكاليف وأرباح، وإلا لوجب على كل ناشر أن يوزع ما يطبعه مجانا لوجه الله، لكي يحفظ للأدب العربي بهاءه، ولينزهه من رجس التجارة.

أذكر أن الشاعر العراقي الراحل أحمد الصافي النجفي، وهو من ذاق أشد مرارات التشرد والفقر، قد بالغ في السخرية من هذه الحال، عندما حرم على الأديب أن يكسب شيئا، حتى لو كان عن طريق (اليانصيب)، وذلك حين قال متهكما: (إذا ربح الأديب بيانصيب.. شككت بأنه حقا أديب)!.

ومما لاشك فيه أن النجفي، رحمه الله، قد ذهب إلى بارئه أديبا قحا، فمن الثابت أنه لم تلحقه شائنة الربح من كتاب، ولا علقت به وصمة الفوز في يانصيب!

وفي حين استطاعت الكاتبة الأميركية (هاربر لي) أن تعيش طول عمرها على مردود روايتها الوحيدة (قتل الطائر المحاكي) التي نشرت عام 1960، فإن شاعرا عظيما كبدر شاكر السياب، لم يذق في حياته كلها طعم مردود جهده، إلا في مناسبة يتيمة لا علاقة لها بالشعر، يوم توسط له جبرا إبراهيم جبرا، ليترجم رواية (الجواد الأدهم) لحساب مؤسسة فرانكلين!

وفي هذا السياق المديد والملون بكل ألوان الطيف، تحضرني ذكرى صاعقة نزلت في السبعينيات من سماء الكاتب الشهير توفيق الحكيم، عندما توجه إليه أحد الصحافيين لإجراء حوار معه، ففوجئ به يطلب منه أجرا مقابل ذلك الحوار.

لقد أثار ذلك الأمر من الاستياء قدرا مماثلا لما أثاره من الضحك وعدم التصديق، لكن الحكيم لم يتحرج من الدفاع عن موقفه بأن الصحيفة التي يعمل فيها ذلك الصحافي لا توزع نسخها على القراءة مجانا، فلماذا يجب عليه هو أن يبذل وقته وجهده بلا مقابل؟

وبرغم وجاهة هذه الحجة، فإن أحدا لم يحملها على محمل الجد، بل بدا للجميع أن الحكيم يرسخ بها صحة ما يتداوله الناس عن بخله وحبه الشديد للمال.

ولو أن الصحيفة نفسها استدعت نجارا لإصلاح مقرها المخلع، لما تأخرت عن إعطائه أجره قبل أن يجف عرقه، ولما وجد النجار من يستنكر عليه ذلك.. أما من يشتغل بالكلمة، فهو وحده الذي ينبغي أن يستر مهنته من العيب برداء المجانية.

الطريف أن نيكولاس رويل محرر كتاب (حديقة النمر) الذي جمع الأحلام المؤثرة في حياة أكثر من مئتي كاتب، روى في المقدمة أن بعض الكتاب اعتذروا عن عدم المشاركة في الاستطلاع، وذكر أن أحد هؤلاء، وهو من المشاهير المميزين ممن تحولوا إلى الكتابة، قد أرسل إليه خطاب اعتذار قال فيه: «أنا لا أحلم.. وإذا حلمت فإن روايتي لحلمي لن تكون مجانية»!

الطريف أن نيكولاس رويل محرر كتاب (حديقة النمر) الذي جمع فيه الأحلام المؤثرة في حياة أكثر من مئتي كاتب، روى في المقدمة أن بعض الكتاب اعتذروا عن عدم المشاركة في الاستطلاع، وذكر أن أحد هؤلاء، وهو من المشاهير المميزين ممن تحولوا إلى الكتابة، قد أرسل إليه خطاب اعتذار قال فيه: (أنا لا أحلم.. وإذا حلمت فإن رواتيي لحلمي لن تكون مجانية)!

وبالطبع، لم يشر رويل إلى اسم ذلك الكاتب، ولم يجعل من الأمر فضيحة، ولو فعل لوجد نفسه متهما بالقذف والتشهير. أما توفيق الحكيم، فقد كان حلالا، حسب فتوى الأصول، أن يشنق من رجليه في ميدان التحرير، لأنه، وهو الحكيم، لم تهده حكمته إلى ثغرة واضحة في القضية من شأنها أن تدحض حجته، وهي: أنه كاتب عربي يكتب بالعربية في بلد عربي.

فإذا تذكرنا أن التقاليد الراسخة تفرض على الكاتب العربي أن ينتج تبراً وأن يأكل تبنا، فإننا سنفهم جيدا أن «بدعة» الحكيم كانت- ولاتزال- شبيهة بمحاولة إيقاف قطار كهربائي باليد المجردة!

* شاعر عراقي