منذ مدة ليست بالقصيرة وأنا مهموم بمتابعة الكتابات الإبداعية الشبابية، وذلك بسبب قناعتي بأن أي موهبة إبداعية، إنما تحتاج إلى رعاية وتشجيع وتوجيه، ريثما تخطو خطواتها الأولى، وتألف وعورة الطريق. وأن الاستثمار الثقافي هو استثمار طويل الأمد، يحتاج إلى إخلاص ومتابعة حثيثة وتأنٍ، ويحتاج من جهة أخرى، إلى حساسية إبداعية مدروسة من قبل الموجِّه المهتم، فعليه ألا يبالغ في إظهار إعجابه الشديد وإيمانه بالموهبة، وبالمقابل عليه ألا يحبط صاحبها، وفي الحالتين فإن النتائج تكون وخيمة. فكم من موهبة واعدة نفخت فيها عبارات الإعجاب المجانية بأكثر مما تستحق، فتوهمت العظمة، وانتهت حيث هي، وبالمقابل كم من موهبة حقيقية، لم تجد من يرعاها ويأخذ بيدها فانتهت إلى الخيبة والانطفاء. جمعتني، في الأسبوع الماضي جلسة أدبية مع أحد الشباب الموهوبين، تكلمت معه باستفاضة وشفافية عن عمله الأول، وأهمية "القطفة الأولى"، بوصفها جواز مرور الموهبة إلى القارئ، وان أهم ما يقدمه الكتاب الأول لصاحبه، هو لفت الأنظار إليه وإعلان ميلاده، لذا وجب أن يكون هذا الميلاد مستحقاً، خاصة أن سوق الكتاب العربي، عبر معارض الكتب العربية المتنقلة، وعبر مواقع بيع الكتب على شبكة الإنترنت، صار يجبر الكاتب الناشئ على التريث والاهتمام والاشتغال الحريص على كتابه الأول، فارضا عليه قياس إنتاجه الإبداعي بأعمال عربية مشابهة. لحظتها بادرني ذلك الشاب بسؤاله: "كيف لي أن أطوّر نفسي، لأقدم عملاً جيداً؟".

Ad

ابتسمت له، فأعاد سؤاله بطريقة أخرى: "ما النصيحة الأهم التي توجهها لي؟".

ودون تردد قلت: "القراءة".

راح ينظر إليَّ وكأنه يستنكر عليَّ الإجابة البسيطة، أو أنه كان يعتقد أن النصيحة الأهم تكمن في موقع آخر. فأكدت إجابتي قائلاً: "لا شيء يوسّع أفق الكاتب مثل القراءة، ولا شيء يفتح له آفاقاً جديدة كالقراءة، وأخيراً عن طريق القراءة المدروسة والمعمقة يستطيع أي كاتب النظر إلى موقعه وموهبته في الجنس الإبداعي الذي يعمل به".

أرى أن إشكالية الكتّاب الجدد هي اعتمادهم الكبير على خزينهم من المشاعر والأحاسيس والأحلام، الذي عادة ما يتشكل نتيجة الظرف والخبرة الحياتية الخاصة، ويكون مصبوغاً بالذاتي، لذا أقف مشدوهاً أمام

كاتب ناشئ أسأله: لمن تقرأ، فيرد في ما يشبه يقيناً بارداً:

"أنا لا أقرأ كثيراً، أو أنا لا أحب القراءة".

ولحظتها، وبألم أقول له بصراحة:

"لن تكون كاتباً بدون القراءة".

نعم، لا أستطيع أن استوعب كاتب قصة لم يقرأ لتشيخوف أو يوسف إدريس أو زكريا تامر، ولن أستطيع المراهنة على روائي شاب، لم يمر بعوالم الرواية العالمية والعربية الساحرة. كيف لصانع أن يشتغل دون عدة؟ وكيف له أن ينتج دون مادة بين يديه؟

القراءة هي عدة المبدع، والمادة التي يشكّل منها عوالمه.