رحل عنا يوم الخميس الماضي أحد أعلام الفكر والثقافة العربية الدكتور فؤاد زكريا. وإن كانت إسهامات الفقيد في رفد وتأصيل الثقافة والفكر والفلسفة على امتداد الوطن العربي، فإن لإسهاماته تلك في الكويت معنى أكثر عمقاً.

Ad

فمنذ قدومه إلى الكويت عام 1974 وعمله في جامعة الكويت قسم الفلسفة، ومن ثم ترؤسه لذلك القسم، أدرك بحسه العلمي إبداع هذا البلد الثقافي، وقدرة الإنتاج العلمي فيه على الوصول بسرعة ودون إشكال إلى جميع أصقاع العالم العربي، فكان عمله مستشاراً لسلسلة كتاب عالم المعرفة منذ ظهورها سنة 1978 حتى اليوم علامة بارزة في الوسط الثقافي العربي، بل إنها ودون مبالغة أصبحت أهم سلسلة كتاب شهري عربي وأكثرها توزيعاً، وقد ارتبط اسم فؤاد زكريا بعالم المعرفة كما ارتبطت باسمه.

وصفه د. إمام عبدالفتاح بأنه مفكر ثائر أو متمرد وأن هذا التمرد هو الذي جعله يتجه في شبابه إلى دراسة فيلسوف متمرد أيضاً هو فريدريك نيتشه، على الرغم من أنه لا يتفق على الإطلاق مع نزعة نيتشه إلى اللامعقول وإلى الفردية المفرطة، بل نكاد نقول النزعة الأرستقراطية التي تشيد بالخاصة وتحتقر العامة وتدعو إلى التفرد، هذه الثورية استمرت مع فؤاد زكريا على نحو هادئ عندما تحولت إلى النقد بدلاً من الهدم وإلى الرؤية العقلية بدلاً من الثورة العاطفية. وهكذا كان ناقداً للقديم كسقراط وأفلاطون وديكارت وأسبينوزا وغيرهم، رافضاً أن يوصف مفكر ما بأنه «إلهي» أو أن نضفي عليه قدراً من القداسة يجعلنا نجد حرجاً في نقده، بل إن أية فكرة لابد أن تقدم للعقل أوراق اعتمادها قبل أن نقبلها.

كان موقفه المساند والمناصر للكويت إبان محنتها خلال الغزو العراقي الذي امتد من أغسطس 1990 حتى فبراير 1991 دليلاً آخر على مسؤولية المثقف، فلم ينجرف وراء تيار من المثقفين الذين غرقوا بسهولة في حفلة الزار المؤيدة للعدوان، بل وقف وغيره من المفكرين كالطود الشامخ، ولا أدل على ذلك من إصراره على استمرار صدور سلسلة عالم المعرفة من القاهرة أثناء الاحتلال حيث يؤكد د. سليمان العسكري أن إعادة الصدور تلك كانت بمنزلة تحدٍّ صريح لقرار المحتل إطفاء شعلة الثقافة العربية التي كانت تنطلق من الكويت، كما رفض رفضاً قاطعاً عروضاً مغرية قدمت له في تلك الفترة للإشراف على إصدار سلسلة بديلة تصدر في موقع آخر غير الكويت وكان رده: «إن لم تواصل سلسلة عالم المعرفة صدورها فلن أعمل في أي سلسلة أخرى بقية عمري».

كان رحمه الله جريئاً في دفاعه عن الكويت أثناء محنتها، فكتب في الأيام الأولى للاحتلال شاجباً العدوان العراقي بشكل واضح لا مواربة فيه، إذ كتب في الفترة ما بين 13 أغسطس 1990 حتى 26 أبريل 1991 ستة عشر مقالاً نُشرت في الأهرام القاهرية والدولية وصحف أخرى، في زمن تلكأ فيه وتردد فيه الكثير من المثقفين العرب عن اتخاذ موقف دع عنك أولئك الذين فقدوا عقلهم، إلا أن فؤاد زكريا ظل محافظاً على ما عاش من أجله وهو التفكير العلمي والعقلاني والإنساني في ذات الوقت، وسيبقى علمه والتزامه الأخلاقي والمهني إشراقة لكل من أراد أن يقتدي به.

أما إن كانت هناك أمنية وطريقة لتكريم راحلنا الكبير فقد يكون من الأنسب إصدار كتاب تذكاري عبر سلسلة عالم المعرفة خاص بذكراه، وبالإمكان الاستعانة بكتاب تذكاري خاص بالدكتور فؤاد كان قد أصدره قسم الفلسفة بجامعة الكويت سنة 1998، نتمنى على المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب أن يتبنى هذا المشروع. كأن يتم إصدار عدد خاص من عالم المعرفة يتم فيه تجميع عدد من مقالات ودراسات الفقيد.

رحم الله فقيدنا الدكتور فؤاد زكريا.