أربعة أجيال مرت على مَن نطلق عليهم «البدون» (غير محددي الجنسية)، ولا نزال نصفهم بالمتسللين والمزورين و«المقيمين بصورة غير قانونية»... تنكرهم الدولة اليوم وترفضهم، بعد أن كانت تعترف بهم، وبعد أن كانوا جزءاً من المجتمع الكويتي، يتمتعون فترة طويلة (1959- 1986) بحقوق مدنية وإنسانية، ليُجرَّدوا بعد ذلك من أبسط الحقوق الإنسانية التي أقرها الدستور والاتفاقيات الدولية، كحق التعليم والتطبيب والتوظيف، وليُحرَموا إصدارَ شهادات الزواج والميلاد والوفاة، كي يعيشوا بين ظهرانينا في أوضاع بائسة كئيبة يحاصرها الفقر والمرض والجهل والحرمان... كل هذا يحدث في الكويت التي يصل خيرها إلى أصقاع الأرض!

Ad

لقد تعاملت الدولة مع هذه القضية بشكل أمني بحت دون الأخذ في الاعتبار مفاهيم الأمن الإنساني الحديث، غير واعية بتداعياتها الاجتماعية ونتائجها الكارثية على أمن البلد واستقراره، فأهملت القضية وتباطأت في إيجاد حل شامل عادل لها، مكتفية بالإجراءات المتعسفة من أجل الضغط على «البدون» لإظهار «وثائقهم الأصلية»، الأمر الذي حدا بكثير منهم إلى اللجوء إلى شراء جوازات لبلدانٍ لم يعرفوها من قبل، ليتخلصوا من العذاب اليومي، وقد يكون بعض تلك الجوازات مزوراً بسبب الضغوط النفسية والاجتماعية والتهديد بوضع «القيود الأمنية» دون محاكمة، أو إجبارهم على التوقيع على بيانات غير صحيحة دون وثائق أو أدلة ثبوتية. تتخذ الدولة كل هذه السياسات التضييقية متناسية أن هذه القضية هي أساساً صنيعة سُوء إدارتها، وفشلها في التمييز بين قلةٍ أخفَتْ وثائقها الرسمية وأغلبيةٍ وُجِدت في الكويت منذ الخمسينيات من القرن الماضي، حين استثنت المادة 25 من قانون الإقامة لعام 1959 أبناء البادية من القيام بإجراءات الدخول، فأقاموا فيها بشكل قانوني، إذ كانت الدولة في أشد الحاجة إليهم، لاسيما في السلك العسكري. هذا بالإضافة إلى الشرائح الأخرى كأبناء الكويتيات المحرومين حقَ مواطنة أمهم، والأشخاص الذين أَهمل أجدادهم التقدم للحصول على الجنسية، والعاملين في السلك العسكري (الداخلية والدفاع)، والقُصَّر المتوفى آباؤهم قبل قانون الجنسية سنة 1959 ولجان 1961، وغير البالغين قبل إيقاف لجان التجنيس، وأبناء الكويتيين من أمهات «بدون»! وأبناء الأسرى وشهداء الغزو وغيرهم. وها هم أبناء الشهيد حمود العنزي يعيشون كلاجئين في بلاد الغربة، ويُمنَعون من دخول الكويت، وبدلاً من احتضانهم ورعايتهم وفاءً لتضحية والدهم، تُركوا يعانون قسوة الحرمان من الأمن والتعليم والعلاج والعمل!

خمسة عقود مرت على بداية ظهور فئة «البدون» الذين عاشوا في الكويت التي لا يعرفون سواها وطناً، فساهموا في بنائها، ودافعوا عنها، ودفعوا أرواحهم في سبيلها، ولا تزال القضية تراوح مكانها رغم الوعود والتصريحات، وكأنها لغز عصيٌّ على الحل. وها هي الكويت تواجه في الـ12 من الشهر الجاري مجلس حقوق الإنسان في جنيف للرد على ملاحظاته. وكم ندين لذلك المجتمع الدولي الذي دافع عن حقوقنا الإنسانية حين انتهكها الغزو الصدامي الغاشم، فكيف ستفي الكويت بالالتزامات الدولية؟

ليت مدعي الإنسانية والمدافعين عن الدستور في مجلس الأمة والمجتمع المدني «يتجيشون» ويقيمون الاعتصامات كما يفعلون اليوم في قضية الخصخصة، بدلاً من تسيد حالة اللامبالاة والإهمال والاكتفاء بذر الرماد في العيون، فحرمان «البدون» أبسط الحقوق الإنسانية ومنعهم اللجوء إلى القضاء لإثبات الأحقية في الجنسية (تحت مبرر حماية السيادة) هو انتهاك صارخ وفاقع للدستور.