... وظل ضميره يؤنبه طوال عمره!
في كتاب الاعترافات، يروي الفيلسوف والمفكر العظيم «جان جاك روسو» حكاية حدثت له في صباه، وكانت من الأسباب الرئيسة التي دفعته إلى كتابة اعترافاته الشهيرة التي غيرت الكثير من الأفكار والمعتقدات في ذلك الوقت.كان «روسو» في السادسة عشرة من عمره، وقد بدأ عمله كخادم عند عائلة إيطالية بعد هروبه من منزل عائلته في جنيف، وفي أحد الأيام، رأى شريطا فضيا أعجبه كثيرا، فقرر سرقته ليهديه إلى «ماريون» الخادمة الأخرى التي كانت تعمل معه في نفس المنزل.
ولم يمض وقت طويل حتى انكشف الأمر، فخشي روسو الفضيحة ولم يجد وسيلة للخلاص سوى اتهام «ماريون» بسرقة الوشاح، واحتار سيد المنزل فعمل مواجهة بين الاثنين يعرف من خلالها هو الكاذب منهما.ارتبكت»ماريون» وتلعثمت ولم تدر ماذا تقول أو كيف تفسر وجود الوشاح لديها، وراحت تسكب الدمع وتتوسل سيدها وهي تقسم أنها ليست الفاعلة، ونظرت إلى «روسو» نظرة لاحقته حتى آخر أيام عمره... وهي تقول: «لا يا روسو... كنت أظنك شخصا طيبا... إن هذا لا يليق بك... لقد أحرجتني حقا... ولا أحب أن أكون مكانك»!لكن «روسو» أصر على الاستمرار في الكذب وتزوير الحقائق لينجو بنفسه، وبلغت به الوقاحة مبلغا مكنه من إلصاق التهمة بها جيدا، وعندئذ، ما كان من السيد إلا أن طردهما من المنزل لظنه بأنها السارقة، ولشكه في صاحبها أيضا!!حين كتب روسو هذه الحكاية، كان قد مضى على أحداثها أربعون عاما، لكنه يقسم بالله أنه لم يشعر بلذة النوم في كثير من الأحيان بسببها، نعم، لقد كانت تغيب عن باله فترات طويلة من الزمن، لكنها لا تلبث أن تعود إليه لتؤرقه وتقض مضجعه، واستمر ضميره بتأنيبه وتعذيبه حتى صار يراها في منامه تقول له: لماذا فعلت ذلك يا روسو؟! ألا تدرك أنك شوهت سمعتي في البيوت؟! ما الذي فعلته لك يا روسو لتحطمني؟!هكذا كانت تتراءى له «ماريون» رغم مرور زمن طويل على حكايته معها وكأنها حدثت البارحة، كان «روسو» يفيق جزعا من نومه ودمعه يتحدر من عينيه مبللا وسادته وشاطرا قلبه نصفين من الألم والندم على ما صنعه وهو صبي يافع لا يعي من أمر دنياه شيئا!وأخذت بمرور الوقت هواجسه تكبر وتتضخم، وحول ضميره المعذب تلك الخطيئة الصبيانية إلى جريمة كبرى لا تغتفر، وراح يتساءل كلما خلا لنفسه يحدثها: ما الذي حدث لماريون الطيبة؟ هل حقاً اضطرت للعمل كبغي من أجل أن تعيش بعد أن رفضتها جميع العائلات؟ أين ذهبت يا ترى؟ وفي أي درب تاهت؟ هل قضي على مستقبلها أم وجدت سبيلها للنجاة؟! هذه الأسئلة وغيرها حطمت قلب «روسو» وأتعبت عقله على مر السنين، وفي آخر خريف من عمره، حين كان أعداؤه يطاردونه ويضيقون عليه الخناق من كل جانب، وبعد أن صار ملء السمع والبصر، وتحول إلى أسطورة زمانه، وصارت كتبه تحرق على أيدي المتزمتين في كل أجزاء أوروبا، وبعد أن أصبح ذلك الصبي الوقح «جان جاك روسو» العظيم.كان على قناعة تامة بأن العناية الإلهية تقتص منه بسبب «الخطيئة» التي ارتكبها وهو صغير، وكان يشعر بشيء من الراحة والعدالة حين يشوهون سمعته كما شوه سمعة تلك الخادمة، وكلما اضطهد أكثر، شعر بالشفاء والتطهر من ذنبه القديم، ولعل تأنيب الضمير هذا الفريد من نوعه عند «روسو» هو ما جعله يكره الكذب ويتعامل معه على أنه جريمة كبيرة، ولعله هو أيضا ما صنع منه أصدق كاتب في تاريخ أوروبا!ترى... كم واحدا منا يؤنبه ضميره ويلاحقه الشعور بالذنب مثل جان جاك روسو؟!أسأل نفسي هذا السؤال كلما قرأت خبرا عن انتحار خادمة أو سائق أو عامل نظافة لأسباب لا يعلمها إلا الله وحده... والراسخون في الظلم!!**** (بتصرف) عن مقال «جان جاك روسو» للأستاذ هاشم صالح كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء