كان يجب التطرق إلى هذه المسألة منذ البداية، فبروز هذه الظاهرة الإسلامية الباسمة وغير المتوترة في تركيا، بالإضافة إلى أنه جاء استجابة لتوجهات الرأي العام التركي بعد غربة تواصلت أكثر من ثمانين عاماً، واستجابة لتطلعات المسلمين في كل مكان فإنه في حقيقة الأمر جاء إن لم يكن بقرار فبتشجيع من الإدارة الأميركية، التي بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر وجدت أنها لمواجهة العنف والإرهاب، الذي يرتكب باسم هذا الدين الحنيف، غدت مضطرة إلى ظهور حالة جديدة غير الحركات والتنظيمات "الإسلاموية" التي بعضها اخترع اختراعاً في مرحلة الحرب الباردة وصراع المعسكرات.

Ad

بعد كارثة الواحد والعشرين من سبتمبر بادرت الولايات المتحدة إلى تجديد خيوطها القديمة مع الإخوان المسلمين، وأجرت اتصالات سرية وعلنية معهم، والهدف كان التأكد من إمكان التعاون معهم، سواء من خلال بقائهم كمعارضة أو من خلال وصولهم إلى مواقع الحكم والسلطة في بعض الدول العربية والإسلامية، لمواجهة تطرف "القاعدة" والتنظيمات الصغيرة التي تمارس الإرهاب على مدى اتساع العالم كله باسم المسلمين وباسم هذا الدين الحنيف.

وكان لدى الأميركيين الاستعداد لتسهيل وصول "الإخوان" إلى السلطة أو المشاركة فيها في دول عديدة من بينها دول عربية، بشرط أن يلونوا مواقفهم ومنطلقاتهم بشيء من الليبرالية، وأن يتخلوا عن شيء من شموليتهم، وأن يقبلوا بالآخرين كما يقبل الآخرون بهم، لكن ما أفشل هذه المحاولة الأميركية هو أن هؤلاء، أي "الإخوان"، لم يستطيعوا الخروج من المداميك العقائدية القديمة التي كانوا بنوها حول صوامعهم في مراحل سابقة من المفترض أن تكون جزءاً من الماضي الذي رحل برحيل صراع المعسكرات والحرب الباردة.

لكن أميركا في ضوء هذه الاتصالات وجدت أن أصدقاءها القدماء، الذين تعاونوا معها وتعاونت معهم خلال الحرب الباردة، غير قادرين على التطور حتى وإن كانوا راغبين فيه، وأنهم منغمسون في شموليتهم حتى الرقاب، وأنهم يقفون على أرضية غير بعيدة عن الأرضية التي يقف عليها "القاعدة" وحركة طالبان، ولذلك فإنها قد سارعت إلى الاتجاه نحو تركيا التي بدأ يبرز فيها إسلام سياسي جديد قادر على إنجاز متطلبات الشعب التركي الاقتصادية والحضارية والسياسية، وفي الوقت نفسه يشكل نموذجاً لأهل هذه المنطقة ومقبولا من الغرب والعالم بأسره.

وهكذا فقد سهلت الولايات المتحدة لهذه الظاهرة الإسلامية الجديدة الصاعدة كل طرق نجاحها، بأن منعت جنرالات الجيش من التعامل معها بالانقلابات العسكرية كما كانوا تعاملوا مع محاولات سابقة وأجهضوها بقوة السلاح، فأميركا التي بدأت تلمس تبلور فراغ في الشرق الأوسط لا يوجد مرشح لملئه سوى إيران الثورة الخمينية، كانت في حاجة إلى تركيا جديدة غير تركيا السابقة لتكون الرقم الرئيسي في معادلة هذه المنطقة.

ولذلك ولأنها تعرف أن الطريق إلى موقع الريادة والقيادة في الشرق الأوسط كله هو النظر إلى إسرائيل بعين حمراء، فقد تساهلت أميركا تجاه "تحرش" تركيا أردوغان وعبدالله غول بالإسرائيليين، واحتضان القضية الفلسطينية، لكن بشرط ألا يتجاوز هذا الخطوط الحمراء، وبشرط أن تبقى هذه المناوشة ضمن السيطرة وضمن أن كلا الدولتين تشكلان الركائز الإستراتيجية للمصالح الحيوية الأميركية في هذه المنطقة، وهذا هو الذي جعل واشنطن تتحرك وبسرعة لضبط إيقاع هذا الاشتباك الذي بدأ بحادثة "دافوس" المعروفة والشهيرة. إن هذه هي الحقيقة وإنها حقيقة تسجل على لائحة إيجابيات حزب العدالة والتنمية التركي لا على لائحة سلبياته.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة