أنصار الدمج في مواجهة أنصار التحفيز
تعتمد كل الأنظمة الفكرية على افتراضات لا تحتاج إلى توضيح تفصيلي، وذلك لأن كل أفراد أي مجتمع فكري بعينه يقبلون هذه الافتراضات، وهذه البديهيات «العميقة» متضمنة في الاقتصاد أيضاً، ولكن إذا لم يتم إخضاعها للفحص الدقيق فقد تقود صناع القرار السياسي إلى طريق مسدود، وهذا هو ما يحدث على وجه التحديد فيما يتصل بالجهود المبذولة اليوم، في بلد تلو الآخر، في محاولة لخفض الإنفاق وتقليص العجز في الموازنات.
كانت المهمة الرئيسة التي كرس لها جون ماينارد كينز كتابه «النظرية العامة في تشغيل العمالة، والفائدة، والنقود» تتلخص في الكشف عن البديهيات العميقة المؤسسة للعقيدة الاقتصادية في عصره، والتي استبعدت احتمال البطالة الجماعية المستديمة، وكان السؤال الذي وجهه إلى معارضيه هو: «ما المعتقدات التي استندتم إليها حين زعمتم أن البطالة الجماعية المستديمة أمر مستحيل، واستنتجتم من ذلك أن الحوافز التي تقدمها الحكومة لرفع مستوى تشغيل العمالة غير مجدية؟». وفي إجابته عن هذا السؤال ذهب كينز إلى إعادة بناء النظرية التقليدية، ثم شرع في هدمها.واليوم، وعلى الرغم من الثورة الكينزية، فإن نفس السؤال مازال في احتياج إلى إجابة: ما المعتقدات الاقتصادية التي يتعين على أولئك الذين يطالبون بالدمج المالي السريع في ظل البطالة الشديدة أن يؤمنوا بها حتى تصبح سياساتهم متماسكة؟إنه ليس بالسؤال البسيط، وذلك لأن قميص التعذيب المالي أصبح البند المفضل بين الأردية السياسية لدى هؤلاء الذين يتولون الآن إملاء الشؤون الاقتصادية، والواقع أن بعض الهيئات المرموقة مثل مجموعة العشرين، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تنضم إلى «الأسواق» وكتاب الأعمدة الاقتصادية في مطالبة الحكومات بتسييل عجزها، وتزعم هذه الهيئات أن أي مسار آخر ينذر بالكارثة؛ وأن ضبط الموازنات في أقرب وقت ممكن هو السبيل الوحيدة للعودة إلى الازدهار.ويتصدى قِلة من الاقتصاديين من أتباع كينز لهذا الاندفاع نحو التقشف- بول كروغمان، وجوزيف ستيغليتز، وبرادفورد ديلونغ في الولايات المتحدة؛ ومارتن وولف، وسامويل بريتان، وداني بلانشفلاور، وأنا شخصياً في المملكة المتحدة؛ وبول دي غروي، وجان بول فيتوسي في أوروبا القارية- ولكننا نشكل أقلية صغيرة. والواقع أن كل الحكومات الغربية، باستثناء إدارة أوباما، ملتزمة بالتقشف، والآن بات أوباما عاجزاً عن تمرير حزمة جديدة من التحفيز عبر الكونغرس، والسؤال الآن هو: بأي شيء ينبغي لأنصار الخفض والتقليص أن يؤمنوا لتبرير سياساتهم؟كلما طرحت هذا السؤال فإنني لا أحصل على إجابة؛ لذا، اسمحوا لي بتتبع خطوات كينز.إن أول الافتراضات الضمنية للنظرية التقليدية والتي عَرَّفها كينز كانت تتلخص في قانون ساي، أو المبدأ الذي يزعم أن العرض قادر على خلق الطلب الخاص به، وهذا يعني أن كل النقود المكتسبة لابد أن تُنفَق، وبالتالي فمن غير الممكن عند أي نقطة من الوقت أن تتكون «وفرة عامة» من السلع الأساسية.ولقد أشار كينز إلى المغالطة هنا: فعلى الرغم من أن الدخل المستمد من الإنتاج يساوي بحكم التعريف قيمة الإنتاج، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن كل الدخل لابد أن يُنفَق، فقد يتم «كَنز» جزء منه، وفي هذه الحالة فإن الطلب قد يكون أقل من العرض، ولقد نفى كينز على وجه التحديد أن الادخار مجرد إنفاق مؤجل، وفي عبارة شهيرة كتب كينز: «إن الادخار عبارة عن اتخاذ القرار بعدم تناول العشاء اليوم، ولكن الأمر لا يشتمل بالضرورة على اتخاذ القرار بتناول العشاء أو شراء زوج من الأحذية بعد أسبوع... ومن ثم فإن هذا التصرف (الادخار) يعني الامتناع عن إعداد عشاء اليوم من دون تحفيز عملية الاستعداد للاستهلاك في المستقبل». ويقول كروغمان: «إن التوصل إلى هذه الحقيقة كان من بين أعظم الإنجازات الفكرية»، ورغم ذلك فإن قانون ساي مازال على قيد الحياة وبصحة طيبة بين أنصار الاقتصاد الكلي من الكلاسيكيين الجدد من أمثال جون كوكران ويوجين فاما، الذين يذهبون إلى الزعم بأن عوامل الإنتاج سوف تظل موظفة بشكل كامل، وطبقاً لتعبير كوكران: «إذا استعارت الحكومة منك دولاراً، فهو دولار لا يمكنك أن تنفقه، أو هو دولار لن تتمكن من إقراضه لإحدى الشركات التي قد تنفقه على استثمار جديد».وكانت الفرضية الكلاسيكية الثانية التي وضع كينز يده عليها هي أن «الأجر الحقيقي يساوي نفس القدر الهامشي من عدم الاستفادة من العمالة»، وهذا يعني أن الأجور الحقيقية في سوق العمالة التنافسية سوف تخضع للتعديل الفوري وفقاً للتغيرات الطارئة على ظروف الطلب. أو بعبارة أخرى، من غير الممكن على الإطلاق أن تنشأ بطالة طوعية أو غير مرغوب فيها.ولقد نفى كينز أن الأجور الحقيقية يجري تحديدها في سوق العمالة، فالعمال يساومون على الأجور النقدية، وأي انخفاض في دخولهم النقدية قد يؤدي إلى انخفاض الطلب الكلي إلى الدرجة التي لا تسمح بتوظيف كل القادرين على العمل. ورغم ذلك فإن أغلب خبراء الاقتصاد اليوم يعتبرون البطالة «سلوكاً طوعياً»، أي أن البطالة عبارة عن تفضيل للراحة والاسترخاء على العمل استناداً إلى تفكير متعقل، وهذا من شأنه أن يعزز الفكرة القائلة بأن «التحفيز» ليس مجدياً، ما دام القدر الذي يرغب العمال فيه من العمل يتوافر لهم.ويرى كينز أن الافتراض الضمني الرئيسي المؤسس للنظرية الكلاسيكية في الاقتصاد يتلخص في المعرفة الكاملة، وفي كتاباته يقول: «كان من المفترض أن تتمكن المجازفة من إجراء حسابات وتحليلات اكتوارية دقيقة، وكان من المفترض في حسابات التفاضل والتكامل... أن تتمكن من الحد من عدم اليقين بحيث يصبح أقرب إلى الحالة المحسوبة لليقين ذاته...».ويرى كينز أن هذا الافتراض واه للغاية: «إن القاعدة الوحيدة التي بين أيدينا ليست أكثر من فكرة بالغة الغموض عن أي شيء آخر غير العواقب المباشرة لتصرفاتنا». وهذا يعني أن الاستثمار، الذي يشكل دوماً جزءاً من المستقبل، يعتمد على الحالة المتقلبة للثقة. وكانت أسواق المال، التي يتم صنع الاستثمار من خلالها، عُرضة بشكل دائم للانهيار عند وقوع أي حدث يؤدي إلى زعزعة الثقة بعالم المال والأعمال. وعلى هذا فإن اقتصاد السوق كان غير مستقر بطبيعته. واليوم تعيد نظرية «كفاءة السوق» إلى الاقتصاد فرضية المعرفة الكاملة من خلال زعم مفاده أن كل المجازفات يتم تقييمها وتسعيرها بشكل صحيح، وهذا يعني أن «بخس المجازفة قدرها الحقيقي على مستوى العالم»، والذي حدده ألان غرينسبان باعتباره السبب الرئيس وراء الانهيار المصرفي في الفترة 2007-2008، كان مستحيلا. ولكنه حدث رغم ذلك. بيد أن الرؤية الكلاسيكية للاقتصاد، والتي كان كينز عازماً على هدمها، ليست على قيد الحياة فحسب، بل إنها أصبحت مهيمنة في الأعوام الأخيرة، الأمر الذي عمل على تغذية اعتقاد مفاده أن الأسواق التنافسية قادرة على تنظيم نفسها، وأنها سوف تعمل دوماً على توفير القدر المطلوب من فرص العمل، وأنها محصنة ضد الانهيارات الضخمة. ولقد أدى هذا أيضاً إلى تغذية المعارضة لتدخلات الحكومة، ولسياسات «التحفيز» التي يفترض أنها زائدة عن الحاجة، إن لم تكن ضارة، ما دامت الأحداث التي تتطلبها ليس من الممكن أن تقع (ولكنها تقع).والواقع أننا ما لم نبدأ بمناقشة الاقتصاد في إطار فكر كينز، فإننا بهذا نحكم على أنفسنا بالخضوع لسلسلة من الأزمات وفترات الركود. وإذا لم نفعل فإن الأزمة التالية سوف تطبق علينا في وقت أسرع كثيراً مما كنا نتصور.* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك، ومؤلف سيرة حياة رجل الاقتصاد الراحل جون ماينارد كينز، وعضو مجلس إدارة كلية موسكو للدراسات السياسية.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».