هذه مقالة لي كنت كتبتها قبل أربعة أعوام، وقعت عليها وأنا أقلب أوراقي القديمة، فوجدت فكرتها حية نابضة وكأنها تحكي أحداث الساعة، أستأذنكم في إعادة نشرها مع تعديلات بسيطة.

Ad

في روايته الشهيرة الشامخة «مئة عام من العزلة» يحكي الكولومبي المبدع غابرييل غارسيا ماركيز صاحب جائزة نوبل، من ضمن ما يحكيه على مدى أجيال ستة، عن قرية أصيب أهلها بحالة عجيبة تسبب النسيان، فأخذت العدوى تسري بين سكانها واحداً تلو الآخر، ويحاول شخص نجا من ذلك أن يساعد أهل القرية عن طريق وضع لافتات وملصقات كتب عليها أسماء الأشياء اليومية والأحداث، مثل «هذه طاولة» و»هذه بقرة يجب حلبها كل صباح»، وعند مدخل القرية نصب لافتتين ضخمتين كتب على الأولى «اسم قريتنا هو ماكوندو»، وعلى الثانية الأكبر حجما «إن الله موجود»!

رواية جميلة، لكن من يقول إن وباء قرية «ماكدونو» حبيس بين دفتي رائعة غارسيا؟! إن هذا غير صحيح فالعدوى منتشرة بيننا، ألستم معي بأن نسيان المبادئ، والأخلاق، والقيم، والخلط بين «الحلال» و»الحرام»، صار سمة بارزة لمجتمعنا؟! أليست الصحف تنقل لنا وبشكل يومي أخبار الفساد والرشاوى والصفقات المشبوهة والعمولات والتلاعب والسرقات على مختلف المستويات ومن مختلف الجهات؟! إذن فـ»النسيان» يكتسح مجتمعنا، من القاع وصولاً إلى القمة مروراً عبر كل مفاصله وعظامه!

يوم كنت حديث السن، كنت أنخدع كثيرا بالمظاهر الخارجية، فلبساطتي كنت أظن الرجل الملتحي، أي ملتح، هو رجل ملتزم «لا ينسى الله» أبداً، والمرأة المحجبة، أي محجبة، هي امرأة فاضلة ملتزمة بالدين وأخلاقها «عشرة على عشرة»، ودع عنك المرأة المنقبة، فهذه كانت في خيالي نموذجاً يمشي على قدمين للدين والأخلاق والقيم، ويحمل تعاليم الله في صدره أينما صار وحل. كنت أظن النائب صوت الشعب وحارس حقوقه، والوزير صمام أمان في البلد، والمحامي حامي، والشرطي في خدمة الشعب، وكل شيخ خطيب مصيب، وأن الدنيا ربيع والجو بديع! لكن حين كبرت، عرفت أن المظاهر لا علاقة لها بالبواطن إلا نادراً، فليس كل ملتح من أهل الله، ولا كل محجبة تعرف الفضل والأخلاق، ولا كل منقبة لها علاقة بالدين. وعرفت أن النائب كثيراً ما يكون نائبة «وأعني بالنائبة هنا المصيبة لا النائبة المرأة، والنائبة يحتمل أيضاً أن تكون نائبة»، والوزير قد يكون ريشة في مهب الريح، والمحامي قد يكون حرامي، والشرطي ربما «خرطي»، والشيخ الخطيب لا يستبعد أنه جاهل غريب، والدنيا «غبار» والجو «نار»!

اكتشفت أن هذه الدنيا مثل صندوق «باندورا»، مليئة بالعجائب، اكتشفت أن اللصوص ليسوا فقط من المحتاجين، بل إن هناك لصوصاً من أغنى الأغنياء، لصوص يخطفون بلدانا بأسرها، بأهلها وثرواتها، بحاضرها ومستقبلها، اكتشفت أن حرف الراء في معادلة «الحامي والحرامي» حرف «سرابي»، يظهر ويختفي بحسب الظروف والتوقيت وبحسب اتجاه الريح، وأن كثيراً من الناس يؤمن بمقولة: «من صادها عشى عياله، وإن هبت رياحك فاغتنمها»، بطريقتهم الخاصة!

لذا، هل ترانا اليوم في حاجة إلى أن نقوم بمثل ما قام به ذلك الشاب في «ماكوندو»، فنعلق لافتات وملصقات في الشوارع والوزارات ومقار العمل والأسواق، وربما حتى على ظهور الناس، «هذا خطأ»، «هذا حرام»، «هذه سرقة»، «هذا بيت حرامي كبير»، «هذا مسؤول غير نزيه»، «هذا نائب يلعب عليكم»، وقبل هذا كله أظن أن علينا أن نعلق لافتة ضخمة جداً مثل تلك التي علقها الشاب على مدخل قرية ماكوندو: «إن الله موجود»!