يبدو لي أن انحسار الشعر عن القارئ، وانحسار القارئ عن الشعر، يقتصر على الشعر العربي اليوم. في الإنكليزية هناك (كمٌّ) هائل من الشعر، ولكن يتخلله (نوعٌ) هائل أيضاً. وهذا يصح على الشعر الغربي، والشعر العالمي أيضاً. الجوائز السنوية الكبرى، بدءاً من نوبل، تحار لحظة الاختيار بين أصوات شعرية عديدة. وجميعها تستحق. معلمون كبار، لا داخل حلبات المهرجان، أو المافيات الإعلامية، ولكن في العزلة وداخل قصائدهم.

Ad

في حركة الشعر العربي اليوم أكثر من عامل يولّد حالة الانحسار، لأن هذا الشعر، أولاً، حريص على أن يظل انعكاساً لواقع الحال السياسي، والاجتماعي، والتاريخي جملة. وإن ادعى غير ذلك. وليد أمين للتاريخ المحيط، لا للذات الداخلية نادرة الهوية للشاعر. والمفارقة التي لا يحب أحدٌ أن يعيها، أن الشعر، وليد الخبرة الداخلية النادرة، هو وحده القادر على الإطلالة الشفوق على المعاناة الإنسانية العامة. لأنه يملك مسافة كافية بين منظوره والمشهد الإنساني. تماماً كالمسافة التي تتطلبها النظرة الفاحصة للوحة التشكيلية. أحزان عبدالصبور هي أحزان كل إنسان، وتضرّع السياب من أجل حفنة من الرأفة والحب هو تضرّعنا جميعاً، وقلق البريكان لا يبتعد عن هذا. في حين تبقى راية شعراء كثيرين، من أجل التمرد والثورة والتحدي والفضح...، تقف مؤلبة الجميع، ولكنها راية واقفة بفعل قبضة واحدة، معزولة. الأجيال الشابة المتعاقبة طربت للرايات باسم التمرد والثورة، ولكن باسم تمرد وثورة فنيين هذه المرّة. فأعطت قداسة للشكل، بعد أن أعطتها للمضمون والفكرة قبل ذلك. وهي لا تريد أن تلتفت إلى مقدار الرداءة التي تولّدها الاستجابة للفاشن الخارجي، وإهمال الهوية الداخلية. ومقدار الرداءة في محاكاة ثقافة غربية مُستعصية على الفهم والاستيعاب والتماس الروحي، العقلي والجسدي. وهنا أقترب من العامل الثاني لانحسار الشعر. على أن هذا العامل لم يبدأ من الشعر ذاته، بقدر ما بدأ من النقد الشعري الأكاديمي، والصحافي على السواء. فهو السبّاق إلى إيهام النفس بضرورة محاكاة تيارات نقدية غربية بعينها، التي لمْ تُعن بالشعر إلا باعتباره ماكنة لغوية، فتلبسته الرطانة المفاهيمية، والأسلوبية، واللغوية، التي أحاطت شعر الأجيال الشابة كما تحيط شبكة العنكبوت الحشرةَ الضحية. أو كما أحاطت مصابيح وأنابيب المصنع الصلب فراشة الحقل المسكينة في قصيدة البريكان:

«مهرجان المصابيحِ/ لافتة المصنعِ الضخمِ ترسمها نبضات النيون

الفراشة لا تستطيع القراءة/ رفّت بكل رشاقتِها

دخلت وهي ترقص/ وانطلقت في رحاب المكان.

لمحت فجوة وانعكاساً من الضوء فانجذبت نحوه

سقطت وسطَ هاوية معتمة

ورأت سلماً لولبياً/ وشيئاً كبرج من الصلب، لا قعر له

وخيوطَ دخان

كبخار الصهاريج/ والتقطت مدخلاً دائرياً فخفّت إليه

إذا نفق من حديد/ يؤدي إلى نفق من حديد

وأحسّت بزاوية الميل فانزلقت / واستقرت على حامل...»

لك هنا أن تتخيل قصيدة الموهبة اليافعة بدل الفراشة، ونقاد الرطانة اللغوية والمفاهيمية بدل صهاريج المصنع وأنفاق الحديد!

الشاعر الشاب ذو الموهبة يجد نفسه في أفق ثقافة عربية، لحمتها صحافة رديئة، وسداها مهرجان تهريجي، لم تعد فيهما القصيدة ولا الكتاب المعيار المعتمد، بل حشد الجمهور والشهرة المرتقبة.

والنقد يؤلبه قدماً ما دام يحمل معه راية التمرد، والرفض، والاختلاف، والطليعية، وكل إيهامات الحضور الحداثي، الذي لا قاعدة مرئية له.

العامل الثالث يعتمد وفاء لا بصيرة له للمرحلة المنهارة روحياً وثقافياً، ويرتبط بضعف الهمة الثقافية. فالنسبة الكبرى من شعراء اليوم اعتمدوا الصحافة مصدراً للثقافة، للشهرة، وللرزق. والصحافة مثل تجارة السوق، تتطلب انشغالاً جسدياً، روحياً وعقلياً، دائماً، ووقتاً دائماً أيضاً. ولذا صارت مصادر المعرفة معلقة على الأرفف، التي لا تخلو من أناقة وتظاهر. الشاعر يكتفي بقراءة شعراء محيطين بدافع المقارنة والمنافسة. ويكتفي بحمى الإلهام التي يسّرها الاعتباط المفاهيمي، الأسلوبي واللغوي. حتى ليبدو الاستغراق الصامت في كسب المعرفة الموسوعية، العميقة، ضرباً من الشذوذ المثير للشفقة، والسخرية. الشاعر الشائع في وسائل الإعلام الثقافي يزعم أنه أصبح مستعصياً على القارئ العادي. وهو يكذب، لأنه أصبح مستعصياً على القارئ الجدي والشاعر الجدي أيضاً!