اختيارنا لاطفالنا

نشر في 23-07-2009
آخر تحديث 23-07-2009 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت في شهر أبريل وضع البرلمان الألماني قيوداً على استخدام التشخيص الوراثي. تُـرى هل يكون القانون الألماني نموذجاً تحتذي به بلدان أخرى بينما نحاول معالجة القضايا الأخلاقية التي فرضتها علينا معرفتنا المتنامية بعلم الوراثة البشرية؟ إن بعض أحكام القانون الألماني تعتمد على مبادئ أخلاقية واسعة الانتشار فيما يتصل باحترام استقلال الفرد وخصوصيته. فلا يمكن لأحد أن يخضع لاختبار من دون رضاه. ولا يجوز لأصحاب العمل ولا شركات التأمين أن تطالب بفحوصات وراثية.

والأفراد يحظون بحقهم في المعرفة- بإطلاعهم على نتائج أي فحص وراثي يجرى لهم- وحقهم في أن يعيشوا وهم يجهلون ما قد تتكهن به الفحوصات الجينية (الوراثية) بشأن مستقبلهم. ولا شك أن التمييز ضد أي شخص أو وصمه على أساس سماته الجينية أمر محظور. رغم جاذبية هذه الأحكام وعقلانيتها، فإنها قد تفرض تكاليف باهظة على الشركات الألمانية. فإذا ما سُـمِح لشركات التأمين خارج ألمانيا بالمطالبة بفحوصات جينية بينما مُـنِعَت الشركات الألمانية من المطالبة بالفحوصات نفسها، فإن الأفراد الذين يعلمون أن فحوصاتهم الجينية تشير إلى أن أعمارهم قصيرة سيذهبون إلى شركات التأمين الألمانية للحصول على وثائق التأمين على حياتهم. وعندئذ فستجد هذه الشركات أنها تسدد المزيد من وثائق التأمين بسبب وفيات مبكرة مقارنة بغيرها من الشركات.

ولتغطية التكاليف المتزايدة، فستضطر الشركات الألمانية إلى رفع أقساط التأمين، الأمر الذي لابد أن يخرجها من المنافسة. في محاولة لتخفيف هذه المشكلة، فإن القانون ينص على أن أي شخص يشتري وثيقة تأمين على الحياة بقيمة تتجاوز ثلاثمائة ألف يورو فمن الجائز أن تلزمه شركة التأمين بالكشف عن نتائج أي فحوصات جينية ربما أجراها سابقاً. ولكن إذا كذِب الناس بشأن ما إذا كانوا قد خضعوا سابقاً لفحوصات جينية، فإن هذا الحكم يصبح بلا قيمة. لقد بات بوسع الفحوصات الجينية على نحو متزايد أن تتكهن، ليس بالصحة فحسب، بل ببعض السمات الشخصية والإدراكية، أيضاً، وهذا يعني أن منع صاحب العمل من إجراء الفحوصات الجينية على المتقدمين للحصول على وظيفة لديه من شأنه أيضاً أن يجعل أصحاب العمل الألمان في وضع غير مواتٍ في السوق الدولية.

ذلك أنهم سيستثمرون الموارد في تدريب الموظفين الذين قد يستبعدهم منافسوهم من أول فرز للمرشحين للوظيفة. وقد يكون في هذا نوع من الإنسانية لأنه يمنح كل فرد الفرصة، بغض النظر عن احتمالاته الجينية. ولكن إن كنا جادين في الأمد البعيد في حظر مثل هذه الفحوصات، فإن الأمر يتطلب التوصل إلى اتفاق دولي- سواء حول مسألة التأمين أو التوظيف- لضمان توفر الفرص المتكافئة لبلدان العالم كافة. لن يكون تحقيق هذه الغاية بالأمر السهل في بيئة اقتصادية تنافسية عالمية حيث تتمتع بعض البلدان مقارنة بغيرها بقدر أقل كثيراً من الاحترام لحقوق الإنسان الفردية. إن الجانب الأكثر إثارة للجدال في القانون الألماني يتلخص في مسألة حظر الفحص الجيني للأجنة في مرحلة ما قبل الولادة للتعرف على الأمراض التي لن تظهر إلا في مرحلة البلوغ. ولنتأمل هنا هذه الحالة على سبيل المثال: امرأة تعرف أن زوجها يحمل الجين المسبب لمرض هنتنغتون.

هذا يعني أن أي طفل يولد من صلب ذلك الرجل من المحتمل بنسبة 50% أن يرث هذه الحالة المرضية. وإذا ورث الطفل هذا المرض فسيبدأ في حوالي سن الأربعين في المعاناة من حركات لا يمكنه التحكم فيها، وتغيرات في الشخصية، وتدهور بطيء للقدرات الإدراكية. وعادة يتوفى المصابون بمرض هنتنغتون بعد خمسة عشر عاماً من ظهور أول الأعراض. ولا يوجد علاج لهذا المرض. بطبيعة الحال، لا نستطيع أن نتصور أن أي أبوين قد يريدان مستقبلاً كهذا لأطفالهم. لقد أصبح فحص الأجنة قبل الولادة (أو لاقحات الأنابيب قبل نقلها إلى رحم الأم) من الممارسات المقبولة في أنحاء العالم المتقدم المختلفة. وإذا جاء الفحص إيجابياً فمن الممكن إنهاء الحمل، أو التخلص من اللاقحة في حالة التشخيص قبل زرعها في الرحم.

إن القانون الألماني الجديد يجرم مثل هذه الفحوصات. ويصدق القول نفسه على الفحص لاستكشاف الجينات التي قد ترشح النساء بقوة للإصابة بسرطان الثدي. ومع تقدم علم الوراثة، فإن المزيد من مثل هذه الحالات التي قد تظهر في مرحلة متقدمة من العمر ستصبح قابلة للاستكشاف قبل الولادة. تُرى ماذا قد يكون الفكر الكامن وراء هذا القانون؟ قد يرى بعض الناس أن أربعين عاماً من الحياة قبل بداية ظهور أعراض مرض هنتنغتون أو سرطان الثدي أفضل من عدم الحياة على الإطلاق. ولكن إذا وضعنا هذا في الحسبان، أفلا ينبغي لنا أن نضع في اعتبارنا أيضاً حياة الطفل الذي كان الأبوان ليرزقا به لو كانا قد تمكنا من الاستعانة بفحوصات ما قبل الولادة والتأكد من حمل طفل لا يحمل جين المرض؟ لا شك أن فرص هذا الطفل في الحياة ستكون أفضل. حين يكون بوسعنا أن نختار بين الحياة في ظل هذه الاحتمالات المختلفة- وحين يكون بوسعنا أن نختار قبل أن ينشأ لدى الجنين أي شكل من أشكال الوعي- أفلا ينبغي أن يكون بوسعنا أن نختار الطفل الذي يتمتع باحتمالات أفضل؟

ليس من المدهش أن تحظى التساؤلات بشأن الفحوصات الجينية بمثل هذا القدر من الاهتمام الخاص في ألمانيا، وذلك نظراً للحتمية الوطنية لتجنب أي تكرار للجرائم التي ارتكبت في عصر النازية. بيد أن المشرعين الألمان، في سعيهم الحميد إلى الابتعاد قدر الإمكان عن تلك الفظائع، انتهوا إلى استنان قانون يجرِّم الاستعانة بالعلم الحديث لتجنب أشكال مؤكدة من المآسي الإنسانية. ويا لها من نتيجة سخيفة. لقد تجاوز الحرص المدى المعقول هذه المرة.

* بيتر سنغر | Peter Singer ، أستاذ أخلاق الطب الحيوي بجامعة برينستون وأستاذ فخري بجامعة ملبورن. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان «الحياة التي يمكنك إنقاذها: العمل الآن من أجل القضاء على الفقر في العالم».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top