... والعرب ... هل نرمي بهم في البحر؟!

نشر في 08-10-2009
آخر تحديث 08-10-2009 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري يجب عدم خلط الأوراق في مسألة حيوية كمسألة علاقة العرب بغيرهم في المجتمعات العربية، بعد أن يتم التسليم والإقرار أن من حق الإخوة الأكراد (في العراق وسورية) والإخوة الأمازيغ (في بعض دول المغرب العربي الكبير) وغيرهم من الجماعات المتميزة الأخرى؛ إن وجدت، التمتع بكياناتهم الذاتية واستخدام لغتهم الأم الخاصة بهم في التعلم والإعلام ومختلف مظاهر الحياة العامة والخاصة، بعد هذا ماذا عن حق العرب في الوجود؟ وهل سيُرمى بهم في البحر؟!

وأعني بالعرب سنةً وشيعة، زيوداً وأباضية ودروزاً، نصارى ويهوداً- الذين تمثل اللغة العربية لغتهم الأم، وقامت الثقافة العربية على أساسها، أي الملايين من المحيط إلى الخليج، دون تمييز إثني أو عرقي، فالنبي الكريم من الأساس حدد مفهوم العروبة في اللغة عندما قال في الموروث المتداول بين فقهاء الإسلام: «ليست العربية بأمٍ وأبٍ لأحدكم، إنما العربية اللسـان». ووجدت «قوميين عرباً» من الأرمن في لبنان، وربما وجد غيري عروبيين من الشركس في الأردن تبنوا اللسان العربي.

أجل... العربية اللسان... وهذا هو أساس الثقافة العربية السائدة بين العرب ولها أسانيد قوية في علوم اللغات الحديثة والفكر القومي العالمي، والتي يتحدد على أساسها مفهوم «العروبة» وتلتقي دولها- سياسياً في إطار جامعة الدول العربية، (وعليها ألا تبقى عند هذا الإطار الذي تجاوزه الزمن بل أن تتدرج مستقبلاً إلى اتحاد عربي أكثر تماسكاً وفاعلية كالوحدات القائمة في عصرنا شرقاً وغرباً ولنا عودة إلى هذا المفهوم المهم والملح).

وفي ضوء هذا المفهوم- ولا مفهوم للعروبة غيره إلا إذا عدنا إلى القبلية والعشائرية التي تضيق بناسها وتهدد اليوم حتى الكيانات العربية الوطنية- فإني أعتبر، على سبيل المثال، طه حسين في عروبة ساطع الحصري، رحمهما الله، رغم أن تاريخ الفكري القومي يسجل أن الحصري كان «عروبياً» وأن طه حسين لم يكن كذلك. وجيلنا يتذكر، منذ عهد القراءة «الإيديولوجية» في شبابه كتاب ساطع الحصري الموسوم (العروبة أولاً) في رده الشهير على طه حسين الذي خالفه هذا الرأي.

ولكن أديبنا الكبير طه حسين كان عاشقاً للغة الفصحى، وكان يرى أنها العامل الموحد للعرب أجمعين، وبالتالي، لا ينبغي تشجيع العاميات العربية المحكية على حسابها لئلا يفترق العرب وتفترق الثقافة العربية أيدي سبأ.

كان ساطع الحصري يمثل «عروبة الإيديولوجيا»، ولكن طه حسين كان يمثل العروبة الأعمق، وإن لم يقلها ويطرح شعارها، وهي «عروبة اللغة وعروبة الثقافة» واليوم عندما نعود إلى تاريخ الفكر العربي، فإننا نسجل للحقيقة أن الحصري كان من دعاة العروبة، ولكن طه حسين كان فارس الثقافة العربية، المستندة إلى الفصحى؛ ولاشك أن أجيالاً من العرب قرؤوا طه حسين، وتأثروا به، تأثراً كبيراً، ولم يمروا بساطع الحصري، وربما سمعوا عنه... ولكن ما بقي لدينا اليوم هو «عروبة الثقافة» لا عروبة «الإيديولوجيا» فرحم الله الاثنين، وجزاهما خير الجزاء، ولكن طه حسين الذي عدّه مؤدلجو العروبة خصماً لهم كان في واقع الأمر نصير العروبة ولسانها المبين!

وهذا ينطبق على نجيب محفوظ أيضاً... فنجيب محفوظ اكتسب عداء «العروبيين» بعد أن أيد مبادرة السادات في كامب ديفيد، وكان كاتب هذه السطور من ناقديه... ومعارضي موقفه.

ولكن بعد التجارب وتأمل الأحداث وذهاب «آنيات» السياسة وبقاء ثوابت الثقافة فإني، أجد أن نجيب محفوظ- رغم مواقفه المعروفة- قد كتب حواراته الروائية باللغة الفصحى... وكان قادراً على توظيفها روائياً وحوارياً كمبدع كبير. وحتى في روايته (زقاق المدق) التي كانت أبرز شخصياتها من الحارة المصرية، أصر نجيب محفوظ على توظيف العربية الفصحى في الحوار الروائي وسمعنا تلك الشخصيات الشعبية والعامية المصرية تتحدث بلغة عربية فصيحة مبينة لا يقدم عليها إلا فنان كبير كنجيب محفوظ! وأعتقد، بأمانة، أن نجيب محفوظ، بهذا المفهوم، «عروبي ثقافة» أكثر من «عروبيي الإيديولوجيا». ولم تبق لدينا اليوم– كعرب- في معركة البقاء غير «عروبة الثقافة»، التي خاضها أخيراً على الصعيد الدولي فاروق حسني مدعوماً بتأييد عربي إجماعي لم يتجل منذ وقت بعيد، ولا غرابة في ذلك فبلده المحوري، مصر، كان موئل الثقافة العربية منذ عهود المماليك والعثمانيين.

ويسود لدى جيراننا الفرس، أن العرب قضوا على ثقافتهم وحضارتهم الفارسية. وهذا تاريخياً غير صحيح ووهم كبير يتداولونه، فالفارسية الحديثة، المحكية منذ قرون في إيران، وطوال العهد الإسلامي، أعني «فارسية الفردوسي» التي أسـس لها– وهو شاعر فارسي- في كتابه الشهير الموسوم «بالشاهنامة»، أي «كتاب الملوك»... هذه الفارسية الحديثة ظهرت بعد ثلاثة قرون من الفتح العربي الإسلامي لفارس.

وعندما ظهر كتاب الفردوسي لم يسجل التاريخ أن السلطات العربية تصدت لحربه، بل تركته يأخذ انتشاره الطبيعي بين بني قومه من الفرس الذين يحق لهم الاحتفاظ بلسانهم الفارسي وثقافتهم الفارسية، وبالتالي، حضارتهم الفارسية.

وتفسيري الشخصي أن من يروجون لفكرة أن العرب شوهوا وزيفوا ثقافة فارس وحاربوا حضارتها، يمثلون معارضة مبطنة للتوجه الإسلامي للدولة الإيرانية، ثقافةً وحضارة.

* * *

وفي مجال التطبيقات المنفرة التي لجأت وتلجأ إليها بعض الأنظمة العربية- بإسم العروبة، والعروبة منها براء- ضد الأقليات وفي مجال الإخلال بحقوق الإنسان أي ضد الأغلبية العربية ذاتها، فإن حكام تلك الأنظمة أرادوا ويريدون السلطة وأنهم توسلوا بالعروبة وسيلة لتثبيت كراسيهم، ولم يكونوا يطبقون أي مبدأ من مبادئها. فقد قامت العروبة على التسـامح طوال تاريخها، ولو لم تقم على التسامح لما استطاع العرب، مادة الإسلام، نشر الإسلام إلى أقاصي المعمورة.

وهذه مسألة تاريخية جديرة بمزيد من التأمل والتعمق، فما الذي دفع سكان إندونيسيا والملايو وغيرهم في بعض أنحاء إفريقيا إلى اعتناق الإسلام، دون وصول جيوش الفتح الإسلامي إلى بلدانهم، لولا القدوة الحسنة التي رأوها في دعاة الإسلام العرب الذين جاؤوهم من السواحل الجنوبية لليمن وأنحاء المغرب تجاراً، وبشراً... أكرر: بشراً قبل كل شيء؟ وعندما ننظر في انتشار الإسلام في بلاد أخرى، على يد فاتحين من غير العرب، نجد أن شعوب تلك البلاد لم تترك ثقافة أولئك الفاتحين بعد انهيار سلطتهم فحسب، بل تحولت عن الإسلام ذاته!

واليوم، إذ يتراجع العرب سياسياً وعسكرياً، فليس معنى ذلك الهجوم على مفهوم العروبة لإلغائه، أو أن يظهر بين العرب: «العربي الكاره لنفسه» كما نرى في سياسات بعض القادة العرب، وفي «جلد الذات» الذي يمارسه الكثيرون من الكتاب العرب في أيامنا.

وأعتقد أن الدكتور عزمي بشارة، الذي قد نتفق أو نختلف معه في بعض آرائه، قد قارب الكثير من هذه الجوانب، والتي تحتاج إلى توقف أطول، في كتابه الجديد والمتميّز والمعبر عن روح مرحلتنا وهو كتاب (أن تكون عربياً في أيامنا)- نشر مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009.

العروبة، وجدت لتبقى... وهي خيمة التسامح لمن يبحث عنه... فمرحباً بالجميع في ظل هذه الخيمة!

* مفكر من البحرين

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top