الأقدارُ تتلاعبُ في مصائرِ الأعمال الإبداعية ومصائرِ المبدعين، كما تتلاعب في مصائر الناس. تتلاعبُ بها ككرة قدم: إلى الهدف أو إلى خارج الملعب. والجمهورُ الذي يلاحقها فائراً، سرعان ما يعود فاتراً بعد المغادرة، مُطمئناً إلى لعب الأقدار.
خاطرة لم تغادر رأسي وأنا أزور المعرض الاستعادي للرسام الفرنسي Delaroche (1797-1856)، لأن هذا الرسام ظل بحكم المنسيين دهراً، مع أنه كان في زمنه أكثر شعبية من كثيرين. كان كثير الولع بمتابعة أحداث التاريخ الدرامية، خاصة لحظات إعدام الملوك وكبار الساسة، والتي كانت سائدة على مدى التاريخ، وتسجيلها بفرشاته، وكان إلى جانب هذا بالغ الدقة الأكاديمية، وكلا الصفتين صارت سُبّةً في العرف النقدي، لا الذوقي بالضرورة.الخاطرةُ التي داهمتني تتعلّق بمدى صحة هذه العلاقة بين العرف النقدي السائد بين النخبة، والعرف الذوقي السائد بين الناس، وحين أقول الناس أعني الجمهور الغفير الذي يجد في الفن سلواناً، وغذاءً روحياً، وفي هذا معيار بالغ الأهمية، وهل يطمع المرء من الفن بشيء أكثر من هذا؟! إلا أن نقاد الفن (وهم عادة لا يُحسنونه كفاعلية) يواصلون ارتقاء سلّمِ ثقافتهم النظرية، ومع كل خطوة يراكمون عناصرَ استنتاجهم، التي لا يخلو منها منهجهم النظري، وعلى ضوء ذلك يتعالى شأنُ الفنان، أو يُدرج في النسيان. فأنا لا أعرف إلى اليوم لمَ تُعتبر الإحالةُ في اللوحة إلى نص أدبي سُبّة؟ ولم تُعتبر النزعةُ الأكاديمية سُبّة؟ ولم لا يحق للفنان أن يتجاوز فروض الطاعة للمعايير الفنية السائدة؟ إذا ما اعترفنا بأن الجودة والرداءة هما المعياران الحقيقيان للعمل الفني، فكما نقول إن هناك دقة أكاديمية رديئة، كأن تكون دون حياة، هناك دقة أكاديمية حية. رسامو اليوم الناجحون، في الجملة، هم أولئك الذين تمثّلوا عناصر ما بعد الحداثة بطاعة عمياء، مع معرفتهم أن هذه العناصر إنما هي وليدة إرهاصات نظرية داخل رأس النقاد الذين لا يُحسنون الرسم، والكثير من هذه الإرهاصات محكوم بمصالح السوق، فما الضير في أن تتمرد مواهب شابة على سلاطين المرحلة لترسم بدقة أكاديمية، أو طلاقة فرشاة رومانتيكية، أو تحطيم خطوط تعبيرية؟هذا الأمر حدث للرسام بول ديلاروش، ولكثيرين غيره، كما حدث في حقل الموسيقى الجدية على مر العصور. كان ديلاروش رسام مشاهد تاريخية ذات طبيعة ميلودرامية، مثيرة، وبمذاق رومانتيكي، عناصر تستهوي الجمهور في كل العصور، وخاصة في عصره هو، لذلك كانت لوحات الزنك المطبوعة له تُباع بالآلاف لتُعلق على جدران البيوت، كما كانت لوحاته الزيتية الكبيرة. والمعرض الجديد يضم كلا النوعين، على أن اللوحات الزيتية الكبيرة هي التي تحتل الصدارة بالتأكيد، وخاصة لوحة «إعدام السيدة جَين غرَيْ» (1834) التي كانت منسية، والتي أصبحت قبلة الزائرين، حتى أن أحد النقاد كتب «أن اللوحة بفعل جاذبيتها للجمهور جعلت الأرض الخشبية أمامها تحتاج إلى أعادة صقل وتلميع» بفعل زحمة الأرجل. وتزاحم الجمهور له ما يبرره، فاللوحةُ خاليةٌ من العيوب، بتقنيةٍ عالية، وموضوعٍ بالغ الإثارة، وشخصياتٍ خمسة تحتل اللوحة بتوازن، وبهيئاتٍ ووجوهٍ بالغة الحياة، ومفعمة بالعواطف، لكنها أيضاً تُلخّص كلَّ شيء يرفضه الفن الحديث. اللوحة تصور إعدام جَين غرَيْ، ملكة إنكلترا، التي لم تبلغ السابعة عشرة، وفي القاعة ذاتها لوحة كرومويل، وهو يُطل على كفن الملك تشارلس الأول، الذي أعدمه بقطع رأسه، وهي لا تقل بلاغة في التأثير، بسبب انفراد شخص كرومويل على المساحة الكبيرة للعمل، وهو في لحظة تأمل للملك الذي أعدمه اضطراراً. كان ديلاروش فرنسياً ملكياً، يحمل عبء ما حدث من مجازر في بلده باسم الثورة، وقد وجد ما يلائم لوعته في الموروث الإنكليزي التاريخي والأدبي، فإلى جانب مواضيعه الفرنسية: التروبادور، وملوك العصور الوسطى، هنالك مواضيع انكليزية مستوحاة من شكسبير، بايرون، ولتر سكوت، إنها فرنسا وهي تتأمل تاريخها المتأخر، لكن بوسائل إنكليزية.المعرض تحت عنوان «رسم التاريخ»، وهو عنوان غير مغرٍ للذائقة التي تخضع لمواصفات العصر النقدية، لكنه كثير الإغراء للجمهور عامة، لذلك أعتبر هذا المعرض من أنجح المعارض الفنية هذا العام.
توابل
نصيب الفنان من عبث الاقدار
29-04-2010