حديقة الإنسان: يفتّش عنها في جيوبه

نشر في 18-09-2009
آخر تحديث 18-09-2009 | 00:00
 أحمد مطر المرأة التي سبقتني في النزول، توجّهت مسرعة نحو كراسي الانتظار بين رصيفي محطّة (ويمبلي)، متحاشية الاصطدام بأربع نساء كنّ لائذات بدركة السلّم السفلي. ولاحظت فيما كنت أنزل ببطء، أنّ المرأة المسرعة قد ارتدّت على أعقابها قافزة، قبل أن تثوب إلى الاتئاد في منتصف المسافة، مقتربة من النساء الأخريات، وعلى شفتيها ابتسامة مثلّجة هي من ذلك النوع الذي يستخدم في تلطيف حدّة الفزع، أو في كتم قهقهة الجُبن.

عندما حاذيتهن، انتبهت إلى أنّ وجوه النساء الأخريات كانت ترتدي النوعية نفسها من قماش ابتسامة تلك المرأة، ولم أستطع، لأوّل وهلة، أن أربط بين فراغ الكراسيّ هناك، وبين امتلاء حافة السلّم بكلّ هذا العدد من النساء المنتظرات وقوفاً، غير أنني ما إن وصلت الى أوّل كرسيّ وألقيت بنفسي في حضنه، حتّى أدركت الحقيقة، وبصعوبة كتمت ضحكتي، لكنني لم أستطع مداراة ابتسامة شقّت حلقي كهلال أوّل الشهر.

وبدا لي حين استرقت النظر اليهن، أنّهن كُنّ ينبهن النظر إليّ نهباً، وأن ابتسامتي العريضة قد أغوت خزي ابتساماتهنّ بمضاعفة التضرّج، ولكن بطمأنينة، وفضول هذه المرّة.

الحقيقة التي أدركتها.. كانت فأراً صغيراً جداً، لم أر مثله في حياتي، كان لضآلته وتكوّره شبيهاً بكرة مضرب، لولا حركته الذاتية، ولونه البُنّي المحروق، والأكثر منها ما يخبّئه داخل هذه الضآلة من شجاعة واعتداد بالنفس.

كان يدور في ذلك المحيط الصغير، غير آبه بي، يشمشم ويلتقط من على الأرض ما يلقاه من نثار بقايا الأطعمة. خبطت حذائي بالأرض بقوّة، فقفز لمسافة بضعة سنتيمترات لا أكثر، ثمّ عاد الى بحثه وكأنّ ما بيننا لم يكن سوى دعابة بين صديقين.

خبطت من جديد، فقفز، ثمّ عاد بسرعة، وحين خطبت للمرّة الثالثة تجاهلني كليّاً، وواصل دورانه وتفتيشه، معلناً ضجره من تفاهة لعبتي.

كنت أفكّر بركله نحو السكّة، ثأثراً لكرامتي المهدورة، عندما وصل القطار، فكان وصوله طوق إنقاذ لحياته.. ولماء وجهي أيضاً.

في محطّة (فينتشلي) توقّف القطار، وانفتح باب العربة لثوان قليلة، فدلف منه بضعة ركّاب، وفي اللحظة الأخيرة، عندما شرع الباب في الانغلاق، توغّل من بين شقّيه، كالطلقة، رجل ضئيل، أنجته ضآلته وسرعته الفائقة من أن ينحشر معصوراً بين دفّتي الباب.

ارتمى على المقعد قبالتي وهو يلهث، كانت عيناه الزرقاوان صغيرتين كحبتي فاصوليا، وكان وجهه الباهت متقشفاً في حجمه، وكأنّه احتفظ به أمانة من طفولته، أو لمجرّد حاجته إليه كأرضيّة ضروريّة لحمل أنفه الضخم المستقر على ثلثي تلك المساحة مثل قرن فلفل أحمر.

ما إن التقط أنفاسه حتّى ابتسم لي، وشرع في تعديل هيئته، لكنّه، بغتة، تجمّد تماماً!

حبتا الفاصوليا المحدّقتان بي جامدتان، أرضية قرن الفلفل جامدة، فمه المفغور كمغارة ذهول سوداء.. جامد، جثّته الموجزة المغطّاة بسترة خضراء لامعة بالوسخ المقدّس جامدة.

للحظات، بدا المسكين كصورة فيديو متوقّفة، وقبل أن أستكمل أسباب الفزع، تدخّلت عناية الأقدار فضغطت زرّ التشغيل، وتحرّك الرجل.

ظلّت عيناه عالقتين بي، بينما راحت يداه تمخران عباب جيوبه، اليمنى تنبش الجيب الداخلي الأيسر، واليسرى تفتّش أخاه على الجهة اليمنى، لم يصل الى نتيجة، استلقى تماماً على طول المقعد، ودفع رجليه نحو الممر، وأدخل يديه في جيبي بنطلونه، لا شيء. استوى من جديد، ونبش جيوب السترة الداخليّة، لا شيء.

بعد كلّ حملة تفتيش فاشلة، كان وجهه يزداد شحوباً، وفمه المفغور يزيد من تطوير كفاءته في التعبير عن الهلع، وأنفه يواصل تمريناته للدخول في منافسة جديّة مع لون العلم الصّيني.

أسند ظهره إلى المقعد، وبدأ يتمّم جهوده بالطبطبة على موضع كلّ جيب. كان ضائعاً تماما.

سالته مواسياً:(هل فقدت شيئا مهما؟).

قال وهو شارد: (آه. نعم. أعتقد ذلك).

عدت أساله: (ماذا فقدت بالضبط؟).

رد منكسرا: (لا أتذكر.. المشكلة أنني لا أتذكر).

وعاد من جديد إلى قيادة حملة الاستكشاف، لكنه رجع منها وهو أكثر بؤسا. ألقى برأسه إلى الوراء، وخبطه بالمقعد الوثير محتجا، تم تركه ليستقر هناك مثقلا باليأس والمرارة.

كان القطار يقترب من محطة (بيكر ستريت) عندما استوى الرجل جالسا فجأة، وتجمدت صورته من جديد، غير أن حبتي الفاصوليا انفلقتا عن بريق حاد تشبث سطوعه بوجهي. ولم يمكث التجمد طويلا هذه المرة، إذ سرعان ما أخلى مكانه لتدفق دموي ملأ وجهه بالعدل، وبدد أمل أنفه في الدخول بأي منافسة مع علم الصين.

رفع كفه ولطم وجهه ثم استغرق في ضحكة تدافعت لها دموع الفاصوليا. قال، وضحكته تقطع كلامه كسكين تتقافز فوق قالب زبدة: (لن تصدّق.. اللعنة.. لن تصدّق)!

ولم يمهلني لأستفهم عما لا يمكنني تصديقه، فقد واصل التقطيع: (الآن تذكرت ما فقدت.. لقد نسيت زوجتي على رصيف المحطة)!

اختلطت في ذهني صورة نساء ويمبلي بالفأر الحقير الذي لم يحترمني بهذا الفأر الآدمي، فانفجرت بالضحك.

وإذ توقف القطار، نهض الرجل طائرا نحو الباب الذي بدأ ينفتح.

هل رأيتم عاصفة من قبل؟ كلا.. لست أعني التعرض للعاصفة، أعني رؤيتها مجمدة كلوح من الخرسانة المسلحة.

أنا رأيت هذه العاصفة، فما إن ارتطمت قدما الرجل برصيف المحطة، حتى هبت. كانت أمرأة مكوّنة من ثلاث نساء طولا وعرضا، جاءت من عربة القطار البعيدة، وعصف صوتها بالرجل فاهتز كورقة شجرة: (أيها الأحمق. ما الذي دعاك إلى هذا؟).

كان المسكين قد تحوّل كلّه إلى أنف. لم ينبس بكلمة، ولاذ ببنائها العتيد مثل طفل مذنب، ومضى وراءها يلتقط بصبر ما يتساقط من فيض كرمها: (أحمق.. أحمق).

كنت على وشك إخبارها بأنه كان يبحث عنها في جيوبه، لكنني آثرت سلامته، وتمنّيت من كل قلبي لو أنني حملت ذلك الفأر النذل من ويمبلي، وقدمته هدية لهذا الرجل، لكي يعلمه كيف يكون فأرا حقيقيا جديراً بأنفه الأحمر.

* شاعر عراقي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top