الصورة التي وزعتها وكالات الإعلام ونشرتها الصحف العربية والغربية للرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو ينقل ضيفه الرئيس الروسي ميدفيديف بسيارته إلى أحد مطاعم "الفاست فود"، ليأكلا وجبة بيرغر وكوكا كولا، ربما يعتبرها البعض صورة توحي بالبساطة التي يفضل أن يظهر بها الرئيس الأميركي، وهو يرتدي قميصاً وربطة عنق، ولكن لهذه الصورة دلالات يفهمها الرئيس الروسي ومستشاروه بكل تأكيد. كان بإمكان الرئيس أوباما أن يجعل الأمر بسيطاً فعلاً، وأن يبتعد بضيفه عن مصوري الإعلام، ولكن الرسالة التي يريدها كانت واضحة. لم يعد أمام الرئيس الروسي خيارات كثيرة منذ أن خسر الحرب الباردة، وترك قيادة العالم للسيد الأميركي، وتعليقه على الوجبة التي أكلها "كانت لذيذة ولكنها غير صحية"، هو تعليق على وضعه الإقليمي.

Ad

كانت هناك حكاية قبل الحرب الباردة عن كلب روسي يحاول أن يعبر الحدود إلى أميركا، وفي الطريق يلتقي كلباً أميركياً يحاول هو الآخر أن يعبر الحدود ولكن باتجاه روسيا. يسأل الكلب الروسي زميله الأميركي لماذا تريد الذهاب إلى روسيا، فيرد: "إنني جائع... وأنت لماذا تذهب إلى أميركا وصحتك جيدة؟"، فيرد الكلب الروسي: "أريد أن أنبح". روسيا لم تستطع مقاومة تبعات الحرب الباردة فلم يعد بإمكان المواطن أن يملأ معدته، ولم يعد بإمكانه أن يفتح فمه. وقبل أن يعلن غورباتشيف سياسة إعادة البناء بأقل من سنتين تقريباً صوّر روائي روسيا الأول في الثمانينيات جنكيز ايتماتوف ما وصلت إليه روسيا في مطلع روايته "يطول اليوم أكثر من قرن"، التي تنبأت بانهيار القطب الثاني. لقد رسم ايتماتوف حالة الجوع وهو يتابع ثعلبة اعتادت أن تجري بجوار عربة المطعم في القطار، فيلقي لها الركاب بقايا طعامهم، ولكنها منذ أيام لم تجد شيئاً يستغني عنه الركاب سوى زجاجة فودكا أخذت تشمها حتى أصابها الدوار فقررت أن ترحل.

استطاعت أميركا أن تنشر مذهبها الاقتصادي، وتنشر ثقافتها في أنحاء البلدان التي كانت ترى فيها مصدر عداء وخطورة، وانتشرت بسرعة هائلة سلسلة مطاعم "ماك دونالدز وبيرغر كنج" وأخذت علامة كوكا كولا تحتل مساحات إعلانية هائلة في العديد من الدول التي كانت ترى في تلك العلامة رمزا للإمبريالية. والذي يبني عليه الأميركان سياستهم اليوم هو مبدأ "لن تقوم حرب مع دولة لديها سلسلة مطاعم "ماك دونالدز". والدول التي تطلق عليها أميركا محور الشر هي الدول التي تخلو اليوم من هذه المطاعم.

وجبة الرئيس الروسي لذيذة وغير صحية، وربما تناولها على مضض، ولكنها الوجبة الوحيدة التي تستحق أن تنتشر إعلامياً، وزجاجة الكولا التي تتصدر أغلفة الروايات المناهضة لأميركا- ليس في روسيا وأتباعها فقط- ولكن في أذهان الأدباء الذين يناهضون أميركا، هي الزجاجة التي تصور هيمنة الفكرة الأميركية على الآخرين، واستبدال لفظ الاستعمار القاسي بلفظ Hegemony،

والمقصود به هو إخضاع الآخر للهيمنة بالتراضي. وذلك تحديداً ما ترك السيد ميدفيديف يقبل إفطاراً لذيذاً وغير صحي. والفرق بين اللفظين هو الفرق بين سياستين أميركيتين إحداهما تحمل رمز حمار والأخرى رمز فيل بالمصادفة، ربما، جاء لونه أحمر.