الجهاد الثقافي... أولاً

نشر في 02-11-2009
آخر تحديث 02-11-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري لايزال الوباء الإرهابي يفتك بالضحايا الأبرياء ويسقط العشرات من النساء والأطفال في ديار المسلمين، لقد اشتد ضراوة ووحشية وأصبح يستهدف الجميع لا فرق بين طفل وامرأة أو عجوز أو رجل، وأصبحت كل الأماكن أهدافاً مشروعة لأعماله الإجرامية، لا فرق بين مسجد أو مستشفى أو فندق أو مسكن أو مبنى حكومي.

في آخر إحصائية لضحايا تفجيرات بيشاور، بلغ عدد القتلى «105» معظمهم من النساء، وكان عدد الجرحى نحو «200» جريح، وقد استهدفت التفجيرات سوقاً شعبية بمدينة بيشاور، وسميت «مجزرة نساء»، أما تفجيرات بغداد الأخيرة التي استهدفت وزارة العدل ومبنى المحافظة في وسط بغداد فقد بلغ عدد الضحايا «1000» بين قتيل وجريح، وهناك «60» طفلاً كانوا في دار حضانة ملحقة بوزارة العدل، لا يعرف مصيرهم، وأما في أفغانستان فقد ارتفعت معدلات العنف وزادت الهجمات الانتحارية والتفجيرات الدموية ودائماً يكون الضحايا من المدنيين، وأخيراً قام انتحاريون بتفجير مقر للأمم المتحدة في كابول أدى إلى مقتل «15» شخصاً، وقد تبنت حركة طالبان الهجوم، مؤكدة بذلك عزمها على عرقلة الانتخابات الرئاسية المقررة في «7» نوفمبر الجاري.

إذا أضفنا إلى ذلك ما حصل في إيران في تفجيرات إقليم سيستان التي أودت بحياة العشرات من المدنيين وعناصر في الحرس الثوري الإيراني، أدركنا أن الإرهاب لايزال نشطاً ومدمراً، ولايزال يجتذب إلى صفوفه العديد من شباب العالم الإسلامي، ويجندهم في أهدافه الإجرامية، وهذا يناقض تماماً تلك التحليلات التي ذهبت إلى أن «القاعدة» في حالة تراجع، وأنها تشكو نقصاً في الأموال والعتاد والعناصر البشرية، كيف تكون تلك التحليلات صحيحة والمعطيات على أرض الواقع تقول بكل وضوح إن الوباء الإرهابي يزداد انتشاراً وعنفاً؟! باكستان التي تتعرض للعمليات الانتحارية في مختلف مناطقها، اضطرت إلى إغلاق كل المؤسسات التعليمية فيها، وقاية للطلاب والطالبات من العمليات التفجيرية التي باتت تستهدف كل شيء بما فيها المدارس.

وفي العراق الذي شهد تحسناً نسبياً بعد ثورة مجالس الصحوات وتمردها على عناصر «القاعدة» والجماعات الإرهابية، عاد اليوم ليصبح مسرحاً للتفجيرات الدموية، وهي تزداد وحشية وعنفاً باقتراب موعد الانتخابات في يناير القادم، فقد دخل انتحاري يلبس حزاماً ناسفاً جامع التقوى في «تلعفر» ليفجر نفسه ويقتل العشرات من المصلين.

وفي الصومال الممزقة بالجماعات الإرهابية، يسقط يومياً العشرات من القتلى والجرحى نتيجة تبادل القصف الصاروخي والقذائف التي تتساقط على السكان بشكل عشوائي، فهجمات الجماعات المسلحة اليوم أكثر تدميراً وقتلاً، والحوثية في اليمن تخوض حرباً شرسة ضد الحكومة اليمنية، وتسيل دماء غزيرة، والهدف في النهاية إقامة دولة دينية طبقاً لمفهومها الضيق في الشريعة «الدولة الدينية» هي الهدف النهائي لكل الجماعات الدينية المسلحة في كل مكان عبر العمليات الانتحارية بهدف هز الاستقرار، وبث الرعب والمخاوف وإضعاف سيطرة الدولة وإسقاطها.

كل تلك الجماعات التي تتخذ من تطبيق الشريعة شعاراً للوصول إلى الحكم أو ترفع شعار «المقاومة» المسلحة، سبيلاً للسيطرة والنفوذ والتسلط إنما تمثل في النهاية مشاريع «انفصالية» تمزيقية لجسد الأمة الإسلامية، ولو قدر لها النجاح لتحول العالم الإسلامي إلى «دويلات».

المد الإرهابي العنيف لايزال وبعد «8» سنوات على كارثة 11 سبتمبر، بالرغم من كل الضربات الأمنية الناتجة في مختلف الدول كرد مدمر يضرب المجتمعات الإسلامية ويعطل المشاريع التنموية ويهدر الثروات ويبدد طاقات الأمة، ولا تقتصر آثاره وتداعياته المخربة على المجتمعات الإسلامية بل تجاوزتها إلى أبناء الجاليات الإسلامية في الغرب، وفي الولايات المتحدة الأميركية، فما أكثر الشبكات الإجرامية والعناصر المتصلة بالجماعات المتشددة التي تكشفها الأجهزة الأمنية في الغرب.

لقد وجه الادعاء الأميركي أخيراً اتهامات لطارق مهنا، «27» عاماً، وهو من سكان «ماساتشوستس» بالتآمر لتنفيذ عمليات إرهابية داخل وخارج الولايات المتحدة، كما كشف أخيراً عن إلقاء القبض على «زازي» وهو مهاجر أفغاني يبلغ «24» عاماً في «كولورادو» بتهمة التحضير لاعتداءات إرهابية، وقامت شرطة نيويورك بمداهمة عدد من المنازل في نيويورك في إطار التحقيق ضد الإرهاب، كما وافقت محكمة في «براغ» بتسليم اللبناني «أسامة قيصر» إلى الولايات المتحدة الأميركية للتحقيق معه في دعم نشاط إرهابي على أراضيها، وأدانت محكمة بريطانية «3» بريطانيين مسلمين خططوا لقتل الآلاف عبر الأطلسي في هجمات انتحارية عبر متفجرات سائلة توضع في قوارير بلاستيكية للمشروبات المنشطة بغية التحايل على نقاط التفتيش لتفجيرها في الجو، وهي المؤامرة التي عرفت بـ«الإرهاب السائل» والتي غيرت أحكام الطيران كلها حول العالم، وفُرض بموجبها على الركاب حظر حمل أي سوائل، وعلى إثر اعتقال خلية «نورث كارولينا» حذر وزير العدل الأميركي من تصاعد المد الأصولي بين الأميركيين.

وفي إفريقيا يتسلل الأصوليون بسهولة من الصومال إلى كينيا وتقوم حركة «شباب المجاهدين» وهي حركة إسلامية مسلحة استطاعات بسط نفوذها على مساحات واسعة في جنوبي الصومال بقطع رؤوس المخالفين، ورجم الزناة، وعمل مسابقات في حفظ القرآن، وتوزع قذائف وأسلحة على الفائزين في المسابقة بهدف تربيتهم على العنف وتجنيدهم لصفوفها، لقد وصل عنف هذه الحركة أنها تمنع الطلاب من المدارس وتطلب منهم الالتحاق بالجهاد، وتعدهم بالجنة، وتعطي كلاً منهم «300» دولار، لدرجة أن وزير حارجية الصومال توقع مزيداً من العمليات الانتحارية.

أما وزير الخارجية الأثيوبي فقد صرح بأن الصومال اختطفها الإرهابيون، والسودان قد يكون التالي!! ومع ذلك نسمع بعض التحليلات التي تقول إن هناك ضعفاً يتهدد «القاعدة» ويمنعها من تنفيذ الهجمات.

لقد قال الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في لقائه بعلماء المسلمين في صنعاء «إن التطرف لا يقل خطراً عن الإلحاد، هو سرطان في جسم الأمة الإسلامية وجهاده واجب».

ويقول وزير التعليم الأفغاني: إن طالبان أحرقت وخربت «700» مدرسة وشردت الآلاف من الطلبة الأفغان، وتعلن عن ألف دولار لمن يقتل مدرسا!! وتعلن عن ألف دولار لمن يقتل مدّرسة!! وفي حين يطالب أمين عام «الناتو» العرب والمسلمين بعدم ترك أفغانستان للإرهابيين وبمساعدة الأفغان في محنتهم، ويطالب مفتي السعودية الشيخ عبدالعزيز آل شيخ: واجب على الجميع شجب ما تقوم به المنظمات الإرهابية.

ويسعى الرئيس الصومالي «شريف شيخ أحمد» في جولة عربية لدعم جهود الحكومة الصومالية ضد المتمردين، تقف المجتمعات العربية والإسلامية في حيرة من أمرها تجاه هذا الوباء الفتاك وتتساءل: لماذا ينخرط بعض شبابها في المخططات الإرهابية؟! ولماذا يتمكن الفكر الضال من التمدد والانتشار عبر الساحة الإسلامية؟!

أكد خادم الحرمين الشريفين أن المرحلة تقتضي استراتيجية تنوير عقول الشباب بقيم الوسطية والتسامح والإيخاء التي يدعو لها ديننا الحنيف، وتحميهم من التيارات الفكرية المضللة، وبدوره صرح الأمير نايف عقب الحادث الإرهابي الذي تعرض له الأمير محمد بأن هذا الحادث لن يزيدنا إلا إصراراً على محاربة هذا الفكر الضال وتجفيف منابعه.

والأسئلة المطروحة الآن: كيف نجفف منابع الفكر الضال دون ثورة فكرية في الميدانين التعليمي والديني؟! وكيف يمكن حماية الشباب وتلقيحهم بالمصل الثقافي الوقائي ضد الوباء الإرهابي دون قطيعة معرفية مع مواريث الفكر الضال؟! هلا تساءلنا: لماذا سرعة انقياد بعض شبابنا لدعاة التكفير والتفجير؟! نتهّم العالم بالتآمر، ونوزع الاتهامات يمنة ويسرة، ونحمّل الموساد والمخابرات الأميركية والغربية مسؤولية تضليل شبابنا، لكن هلا سألنا مرة مناهجنا ومنابرنا التعليمية والدينية والثقافية؟! وهلا راجعنا الجذور العميقة لخطابات «التكفير والغلو والتطرف»؟! وهلا أعدنا النظر في مصادر «ثقافة الكراهية» عبر قنوات فضائية وإلكترونية ومنابر توجيهية؟!

غير مفيد كما يقول الكاتب عبدالله بن ابجاد العتيبي «أن تلاحق الإرهابي وتترك المتطرف وأن تعلن الحرب على المخرب وتجامل من عبأه بالفكر التخريبي». لنتساءل: كيف يبدأ التطرف؟ إنه يبدأ بزرع ثقافة الكراهية في عقول ونفوس لديها قابلية للفكر العنيف، وهذا ما أسميه «القابلية للفكر المتطرف» وهي حالة ليست وليدة ضروف الإحباط العامة كما يدعي البعض، وليست نتيجة خيبات الأمل في المشاريع القومية كما يفسرها البعض، إنما ترجع بالدرجة الأولى إلى رسوخ «البنية التحتية للفكر العنيف» في المجتمعات الإسلامية، وهي التي تغذي ثقافة تلك المجتمعات، وترسخ في لا وعيها الجمعي أوهاماً تاريخية عن ماض مجيد ينبغي استعادته عبر العمل العنيف.

الجهاد الأمني للإرهاب حقق نجاحاً والجهاد السياسي الإعلامي أيضاً حقق إنجازات جيدة في التوعية، لكن كل ذلك ليس بكاف ما لم يسبق تلك الجهود أو يواكبها جهاد «ثقافي» شامل يقوم على إعادة النظر في منظومة البنية التحتية للفكر العنيف، بهدف تفكيكها وحماية مجتمعاتنا منها.

*كاتب قطري

 

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top