لا أريد أن اضحي بطمأنينتي


نشر في 21-01-2010
آخر تحديث 21-01-2010 | 00:00
 لمى فريد العثمان قبل أكثر من ثلاثمئة سنة غادر الفيلسوف ديكارت، مؤسس العقلانية والفلسفة الحديثة، بلاده فرنسا حين كانت مدينة للرعب، يملؤها الأصوليون المسيحيون الذين لا مهمة لديهم سوى تسليط سيف الإرهاب والترويع حول رقاب الناس مستغلين بذلك تحالف السلطة معهم، حيث استفادت من فساد المؤسسة الدينية المهيمنة بشكل كبير.

خاف ديكارت أن يكون مصيره كمصير رفاقة الذين لوحقوا واعتقلوا وتعرضوا للتصفية المعنوية والجسدية بسبب أفكارهم، فسحب كتابه الذي كان على وشك أن يطبع، وشد الرحال إلى هولندا الأكثر حرية ليتمكن من استكمال مسيرة اكتشافاته التي تصطدم باليقينيات والثوابت (رغم إيمانه) التي تجذرت في بلاده، فأي نقد عليها في ذلك الوقت هو تطاول على الدين نفسه، لذا قال ديكارت لأصحابه «لا أريد أن أضحي بطمأنينتي الشخصية من أجل أفكاري»، فاتهمه البعض بالجبن والانبطاح والاستسلام. يخبرنا المفكر المستنير هاشم صالح عن «ضربة ديكارت الكبرى»، ويقول «لو أنه دخل في صراع مكشوف مع الكنيسة لسحقته بسهولة، ولما استطاع إنضاج أفكاره على مهل ومواصلة بحثه عن الحقيقة. وبالتالي فاستراتيجية المهادنة والكتمان كانت إجبارية لكي يستطيع أن يعيش بضع سنوات إضافية ويصنع قنابله الفكرية الموقوتة التي فجرت الأصولية المتزمتة بعد موته مباشرة، وعندما شعر الأصوليون بخطورته كان من ضرب قد ضرب، ومن هرب قد هرب، ولم يعودوا بقادرين على تدارك الحريق أو إطفائه. وكان ديكارت قد سلّم الأمانة وأصبح يرقد هادئا في قبره».

وعلى الرغم من تحريم الفاتيكان قراءة كتبه بحجة الزندقة ولدت فلسفته الجديدة لتقلب المفاهيم رأسا على عقب من خلال تأسيسه لمناهج المعرفة التي تعتمد في الأساس على الشك الذي يوصل إلى اليقين ولو كان نسبيا، فحرية الشك والنقد هما أساس التفكير ولولاهما لما تميز الإنسان عن باقي المخلوقات.

اليوم بعد أن انقسم العالم إلى عصر ما قبل ديكارت وما بعده، نعود القهقرى إلى ذلك العصر لتقضي ضربة التعديلات الحكومية القروسطية على الإعلام والمطبوعات على ضربة ديكارت ومنهجيته، ولتعود حركة التاريخ بشكل إعجازي إلى الوراء حوالي أربعمئة سنة، ولتضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه ترديد مقولة ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود»... لتصبح «نحن لا نوجد لأننا لا نفكر»، لا نوجد كعقول مفكرة بل نساق كقطيع يهشه الراعي بعصاه، لأن التفكير والنقد والشك في رأيهم القروسطي الطفولي هي طريق لخلق العقل المدمر لا العقل المفكر، ونعود إلى الوراء لأننا لم نتعلم دروس التاريخ حين اعتذر عن خطاياه، وتعهد أن تكون استقلالية الفكر والعلم أساس بناء الإبداع والإنتاج وتطور القيم الإنسانية وتقدم الحضارات.

أما نحن فخارج حركة التاريخ هذه تماما لأننا أسأنا تشخيص مرضنا العضال وانشغلنا بأعراضه، الأمر الذي دفع لاستفحاله وتمكنه من قمة الهرم إلى قاعه، وهو مرض الاستبداد، والاستبداد والفساد صنوان لا يفترقان، ويجهل من يحاول تجميل بشاعته جهلا مركبا بأن بناء الإنسان أساس بناء الأوطان، ويتناسى أن قوى الظلام والجمود تنمو وتترعرع في هذا الجو الاستبدادي كنمو الفطريات والعفن، ليصبح الحديث عن التنمية والتطور في ظل تكبيل الحريات مجرد ضرب من الجنون واللامعقول، فالفساد والرشاوى واستغلال المال والنفوذ لن يستطيع كشفها إعلام يطيع ويذعن ويهتف ويمجد وينشد الأهازيج والأناشيد، فعبدالرحمن الكواكبي قال قبل أكثر من مئة سنة إن «الاستبداد أصل كل فساد، إذ يضغط على العقل فيفسده، يلعب بالدين فيفسده، ويغالب المجد فيفسده، ويقيم مكانه التمجيد».

لينتج لنا الاستبداد مجتمعاً خائفاً يعيش في سجن كبير خانق تلوثه قيم التمجيد المشوه والمشوش للحقائق والأفكار، ومن ثم نعيد إنتاج استبدادنا بأشكاله المختلفة سواء الطائفي أو الديني أو الثقافي أو السياسي، ولندور في حركة دائرية مغلقة تكرارية اجترارية، ولكن بالرغم من محاولة جرف العقول جرفا صحراويا فإن الأقلام لن تكسر حتى لو كانت الكتابة دون كشف للهوية كما كتب ديكارت كتابه «مقال في المنهج» دون توقيع، لأنه لم يرد «أن يضحي بطمأنينته من أجل أفكاره»، إلا أن المستبدين لم يستطيعوا منع ذلك الكتاب الذي شكل أساس المشروع الحداثي.

فما بالك بتقييد الحريات في عصر التكنولوجيا والاتصالات الذي لن يكون إلا مجرد عبث؟! 

back to top