ها هي الخطة التنموية تقر أخيراً في مداولتها الثانية، وهي الخطة الأولى من نوعها منذ 1986، ولكن يبقى السؤال: هل شخصت تلك الخطة مكامن الخلل في البنى السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية الهشة؟ تستدعي الإجابة عن هذا السؤال معرفة أسباب التقهقر ومعالجته كي نتمكن من التحرك إلى الأمام.

Ad

وسبب هذا التقهقر هو البنية الفكرية المنغلقة، أما نقطة البداية فهي الحريات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تمكن الإنسان من اكتساب المعرفة النوعية لا الكمية، فلا تنمية دون معرفة ولا معرفة حقيقية دون حرية فردية، ولا حرية دون ترسيخ مفهوم العقد الاجتماعي (الدستور)، الذي أسسه قبل حوالي مئتين وخمسين سنة جان جاك روسو، الذي اتهم آنذاك بالزندقة والكفر، وها نحن اليوم نسعى إلى تطبيق فلسفته، فروسو يقول إن «التنازل عن الحرية هو تنازل عن الصفة الإنسانية، بل تنازل عن حقوق الإنسان وواجباته»، وقد تأسس ذلك العقد الاجتماعي بعد إحدى عشرة سنة على موته حين اندلعت الثورة الفرنسية، وهي التي شكلت نواة إعلان حقوق الإنسان التي دخلت بها إلى عصر الحداثة، وكانت السبب في تقدم أوروبا وازدهارها.

وهو نفس المنطق الذي جاء به تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009، ليجيب عن السؤال الصعب: لماذا تفشل التنمية في بلادنا؟ لنكتشف أن السبب هو غياب فلسفة «الأمن الإنساني» التي تعمل على «تحرر الإنسان من التهديدات التي تتعرض لها حياته وحريته»، سواء التهديدات الشخصية أو البيئية أو الصحية أو الاقتصادية، وهي فلسفة شاملة تطورت بعد فشل النظرية التنموية التي انحصرت في التنمية الاقتصادية، وفشل المفهوم التقليدي الضيق لأمن الدولة، واستبدال منطق القوة والردع بمنطق «القوة اللينة»، كالتنمية البشرية والحكم الرشيد والمواطنة الصالحة وحكم القانون والشفافية وتكافؤ الفرص وحماية الحريات واحترام حقوق الإنسان وتعزيز المجتمع المدني وخلق مجتمع المعرفة، وهي فلسفة معنية أولاً وأخيراً بالإنسان الفرد وحريته، فأمن الفرد هو الركيزة الأساسية لأمن الدولة.

لذلك لا يمكن الحديث عن التنمية دون معالجة جوانب القصور، كتفريغ الدستور من الحقوق والحريات التي كفلتها نصوصه، وحظر الأحزاب السياسية وهشاشة المجتمع المدني والقيود المفروضة عليه، وتردي مستوى التعليم ومخرجاته، والتطاحن والتناحر الطائفي، وتسييس الهويات الذي يناقض مفهوم المواطنة، وسيادة الفساد، وانتهاك الحقوق الإنسانية للفئات الضعيفة كالبدون والعمالة الوافدة والأطفال (مع غياب قانون يحمي حقوقهم) والنساء (في ظل انتهاك حقوقهن المدنية والاجتماعية).

إن التطور العمراني وتشييد ناطحات السحاب والشوارع الأنيقة ليس إلا قشور الحداثة، أما لبها فهو النهضة الثقافية.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة