مع أول أرقام مرضية ومقبولة عن الوظائف في الولايات المتحدة منذ عام 2007، التي نشرت الجمعة الماضي، أصبح بوسعنا كلنا أن نتنفس الصعداء، وذلك لأن أكبر أزمة مالية في التاريخ لم تتحول إلى أزمة اقتصادية كارثية مدمرة.
ونظراً إلى أن تكرار حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي أمكن تفاديها فقد حان الوقت كي نستقي طائفة من الدروس من خلال هذه التجربة التي كادت تفتك بالاقتصاد العالمي. وبينما يعلم الكل حقيقة الأخطاء التي ارتكبت من قبل المصرفيين وجهات التنظيم المالية تتعين الإشارة الى أن النظريات الاقتصادية التي شجعت وبررت تلك الأخطاء لم تتلق الاهتمام الذي تستحقه، غير أن ذلك يوشك أن يتغير الآن. وفي الأسبوع الماضي اجتمع حشد بارز من الأكاديميين الاقتصاديين بمن فيهم عدد من الحائزين على جائزة نوبل، ورؤساء الإدارات الحاليين والسابقين في أرفع الجامعات، وكبار صناع السياسة من مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي وجامعة كنغ في كامبردج التي تخرج فيها جون مينارد كينز، من أجل إطلاق معهد التفكير الاقتصادي الجديد.وقد حصل هذا المعهد، الذي تم تمويله من خلال منحة أولية بمبلغ 50 مليون دولار قدمها جورج سوروس، على وعود بملايين الدولارات الإضافية المماثلة من مانحين آخرين، بغية إنشاء معاهد أبحاث في جامعات بارزة في بريطانيا وأميركا وحول العالم.والغرض من ذلك إعادة النظر في العديد من المجادلات والمناظرات التي طغت عليها نظريات غير واقعية، اعتمدت على فرضيات عن الأسواق العقلانية والفاعلة. وقد أصبحت هذه المفاهيم مهيمنة بصورة متزايدة منذ حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، ونالت بشكل تدريجي احتكاراً فعلياً في تعيينات الجامعات المرموقة وتمويل الأبحاث. وانتهى هذا الاحتكار الثقافي ليس فقط الى تدمير المنافسة إنما الى تدمير نفسه من الداخل أيضاً.قد تبدو هذه قضايا أكاديمية مبهمة وغامضة، ولكنها ذات أهمية عملية وسياسية هائلة. وإن الافتراض القائل إن اقتصاد السوق يفضي دائماً وبصورة آلية الى استقرار ذاتي قد أدى الى بعض الوصفات التقليدية جداً في رسم السياسة بشكل جعل أي محاولة من قبل حكومة ما للتدخل في قوى السوق تلحق الضرر بالكفاءة والفعالية الاقتصادية.وقد يتمثل الجانب الأكثر أهمية في هذه النظريات المجردة والمفضي الى عواقب سياسية بعيدة الأثر في فرضية ميلتون فريدمان عن المعدل الطبيعي للبطالة، وكانت هذه الفرضية في صلب الثورة النقدية المضادة ضد سياسات كينز الاقتصادية في سبعينيات القرن الماضي.وكان فريدمان أكد أن ثمة معدلاً خاصاً للبطالة في أي اقتصاد، ويتم تحديده من قبل عوامل بنيوية مثل المهارة وشبكات رعاية السلامة، وأن الاقتصاد سيتحول بصورة آلية الى هذا المستوى من البطالة. وبالتالي فإن أي محاولة لدفع معدل البطالة الى ما دون هذا المستوى الطبيعي من خلال عوامل تحفيز مالية ستفضي فقط الى رفع معدل التضخم.وقبل فكرة النقد كان الاقتصاديون يعتقدون أن البطالة يمكن تخفيضها من خلال قبول تضخم أعلى بطريقة ما، وذلك حسب ما تم تصويره عبر ما يدعى "منحنى فيليبس" الذي ربط بين معدلات التضخم والبطالة التي تتحقق كل سنة. غير أن خبراء المال أكدوا على أي حال أن منحنى فيليبس كان عمودياً في المدى الطويل على الأقل. ثم أصبح منحنى فيليبس العمودي افتراضاً لا يقبل الجدل، وتم إقحامه في كل نموذج اقتصادي وفي التفويضات القانونية لبنك انكلترا والبنك المركزي الأوروبي الذي يعتمد بشكل ضمني النظرية المالية القائلة إن البنوك المركزية لا تستطيع عمل شيء للتأثير على معدل البطالة.وفي حقيقة الأمر فقد تبين أن فرضية منحنى فيليبس العمودي كانت زائفة، لأن تلك الفرضية ظلت بصورة فعلية أفقية طوال الـ 18 سنة الماضية. وعلى نقيض تلك النظرية تماماً كان لمعدلات الفائدة تأثيرها الكبير على البطالة وبدون أي تأثير تقريباً على التضخم.والسؤال هنا لماذا لم يقل الاقتصاديون أي شيء تقريباً عن مثل هذه القضايا خلال العشرين سنة الماضية؟ والجواب هو ان النظريات الاقتصادية التي نسفتها الأزمة المالية كانت تتمتع بقبول عقائدي قوي.وعلى سبيل المثال فإن فرضيات السوق الفعالة اكدت أنه بينما قد لا تكون الأسواق دائماً على صواب إزاء التنبؤ بالمستقبل فإنها كانت فعالة وذات كفاءة من الوجهة المعلوماتية، وقدمت أفضل الأحكام الممكنة على أساس المعلومات المتوافرة علانية.ومن هذا المنطلق كان من المسلم به ضرورة تجنب المنظمين أو المحاسبين أي تخمينات ثانية بشأن السوق، سواء في ما يتعلق بالأخطار الحقيقية ذات الصلة باستثمارات الرهن العقاري أو القيمة الحقيقية لأصول البنوك أو المستوى الملائم لأسعار النفط. وعندما تدخلت الحكومات بغية تجاوز قرارات السوق عبر أحكامها كان من المحتم أن يفضي ذلك التدخل الى جعل الاقتصاد أقل كفاءة.وقد انطوت فكرة التوقعات المنطقية العقلانية، وهو تأكيد آخر دون دعم تجريبي، على قدر أكبر من التأثيرات السياسية والمالية، وأكد مبدأ التوقعات المنطقية أنه في أي نموذج من السلوك الاقتصادي يتعين على كل مشارك في الاقتصاد أن يتشاطر النظرة ذاتها عن القوانين الرياضية للحركة التي تقرر كيف تتطور عوامل التضخم والبطالة والمتغيرات الاقتصادية الأخرى.وإذا لم يكن ذلك هو الحال، كما كان يقال، فإن بعض الأشخاص سيتصرفون بطريقة لاعقلانية الى حد كبير من خلال تصديق المبادئ الاقتصادية التي عرفت بأنها زائفة من جانب مشاركين آخرين في الاقتصاد.وسمحت التوقعات العقلانية للمنظرين الاقتصاديين منذ بداية حقبة السبعينيات من القرن الماضي فصاعداً كي يثبتوا بيقين حسابي ورياضي أن سياسات الحكومة الرامية الى تعزيز وتحسين النشاط الاقتصادي خلال فترة الركود لن يكتب لها النجاح.وبدلاً من توفير وظائف أو استثمارات إضافية يمكن إظهار سياسة كينز بشأن الحوافز المالية ضمن نموذج توقعات عقلانية بأنها ستفضي فقط الى زيادة التضخم أو الى إرغام المستهلكين على توفير نسبة أكبر من دخلهم، بسبب الضرائب الإضافية التي سيتعرضون لها في المستقبل لتسديد الديون الحكومية.وهذا الجدال بشأن ما يقال عن عدم فعالية إجراءات التحفيز الحكومية يجب أن يكون مألوفاً بالنسبة إلى أي شخص تابع المناظرات في الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا، والتي دارت حول السياسة الملائمة لمواجهة الأزمة.وبينما مضت الحكومات قدماً في إنفاق العجز المالي على مستوى كبير بغية إخراج اقتصاداتها من حال الركود استمر العديد من الاقتصاديين الأكاديميين التقليديين في المجادلة بأن مثل تلك الإجراءات كانت محكومة بالفشل على أساس نظريات رياضية نابعة من مبادئ مثل الأسواق الفعالة والتوقعات العقلانية والمعدل الطبيعي للبطالة.وقد ثبت الآن بطلان مثل تلك المبادئ بصورة شاملة، وذلك من خلال التجربة. والسؤال هو ما إذا كان رد الأكاديميين الاقتصاديين سيتمثل في تطوير نظريات جديدة أو في محاولة الدفاع عن مراكزهم الحالية من خلال التمسك بنظريات يعلمون أنها زائفة؟يذكر أن ماكس بلانك لاحظ في سياق الثورة في عالم الفيزياء، التي حدثت قبل 100 سنة مع اكتشاف النسبية وميكانيكا الكم، أن العلم يتقدم لحل معضلة واحدة فقط في كل مرة.إن إنجازات الاقتصادات العصرية ضئيلة جداً، وأهميتها العقائدية كبيرة جداً، بحيث لا تسمح مثل ذلك التقدم البطيء. ويتعين على الاقتصادات إصلاح نفسها بسرعة وإلا فإن المبادئ كلها ستواجه نهايتها.* أناتول كاليتسكي | Anatole Kaletsky
مقالات
الاقتصاديون والأكاديميون باتوا مستعدين لتحطيم النظريات القديمة
09-04-2010