بعد سلسلة من الأفلام الهزلية المقبولة أو الرديئة، التي بدأت بفيلم «القناع» وانتهت بفيلم «أنا، ونفسي، وإيرين»، فاجأ الممثل الكوميدي «جيم كاري» رواد السينما بأدائه دورا جادا جدا في فيلم أراه من أفضل الأفلام التي قدمتها هوليوود في العقد الأخير من القرن الفائت، وهو فيلم «ترومان شو» الذي قدم، بفنية عالية، موضوعا حيويا يحمل رسالة احتجاج واضحة وصريحة ضد ما يمكن تسميته بالدولة العالمية.

Ad

وقد رشح الفيلم، في حينه، لنيل العديد من جوائز الأوسكار، لكنه لم يفز حتى بواحدة منها، وبرغم ما يمكن تخمينه من أسباب تقف وراء عدم فوزه، ليس أقلها أنه يتحرش علنا، ومن الداخل، بصنيع الدولة الساعية إلى الهيمنة على العالم، فإننا يمكن أن نقتنع أيضا بأن استلهام الفيلم فكرته المحورية من المسلسل البريطاني الشهير «السجين» قد يكون بدوره عاملا مهما في انحسار الجوائز عنه.

عندما شاهدت ذلك الفيلم أكبرت همّة «جيم كاري» من ناحيتين: الأولى لكونه قرر طرح ثوب المهرج، برغم كل ما يدره من عائدات مالية ضخمة، لكي يثبت موهبته الأصيلة كممثل جاد، والثانية لأنه اختار أن تكون خطوته الأولى في هذا الاتجاه بميدان هجاء «الغول»، ومن على ظهر الغول ذاته، وقلت في سري، حينذاك، إن هذا الرجل الموهوب قد ضيع نفسه في اللحظة التي وجدها فيها، ذلك لأنني على بينة من مصير أولئك الفنانين الكبار الذين أعلنوا الحرب على قباحة أميركا، من داخل وزارة الحرب الأعظم فيها: «هوليوود».. وكان في ذهني، بهذا السياق، مصيرا شارلي شابلن، وأورسون ويلز، كمثالين من الجيل الماضي، وأوليفر ستون، وكيفن كوستنر، من الجيل التالي، حيث كان لكل من هؤلاء تجربة قاسية في هذا السياق تستحق الوقوف عندها بشكل خاص ومفصَّل لا تتيحه مساحة هذا الحديث.

وإذا كنت قد أشفقت، في البداية، على «جيم كاري» من مغبة جرأته في «ترومان شو»، فقد تحول إشفاقي إلى خوف حقيقي عليه، حين شاهدت فيلمه التالي «ماجستيك»، إذ بدا لي أنه ماض بإصرار عجيب، ليس إلى هجاء الغول، هذه المرة، بل إلى مناطحته.

قصة هذا الفيلم تدور في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، أي في الفترة السوداء التي تولى فيها اليميني المتطرف «جوزيف ماكارثي» مسؤولية مراقبة كل شهيق أو زفير في الولايات المتحدة، بذريعة مكافحة النشاطات غير الأميركية «وهي اليسارية أو المعارضة على وجه الدقة»، حتى حول البلاد كلها إلى دائرة رعب مغلقة.

يحكي الفيلم قصة الشاب «بيتر أبلتن» كاتب القصص السينمائية في هوليوود، الذي كانت حياته تمضي بوتيرة هادئة، إلى أن اكتشفت الـ»إف. بي. أي» أنه كان خلال دراسته الجامعية قد حضر، مرة وبالمصادفة، اجتماعا للشيوعيين، فوضعته على اللائحة السوداء، لتتحول حياته البسيطة الرضية، فجأة، إلى كابوس ثقيل وطويل.

والجملة المفيدة أو «الرسالة» التي أراد صانعو الفيلم إيصالها إلى الجمهور العريض، بصوت يشبه انفجار القنبلة، هي أن الديمقراطية التي يتوهم المواطن الأميركي أنه في حمى درعها الفولاذي، يمكن لها- بمشيئة النخبة الحاكمة- أن تتحول إلى رقاقة أوهن من قشرة البيضة.

ولنا أن نستعرض حجر الزاوية في قصة الفيلم لنشهد حدة الوعي والجرأة في استعادة قباحة المكارثية وإدانتها في زمن مكارثي جديد: فبعد أن أدركت لجنة النشاطات غير الأميركية أن «بيتر أبلتن» ليس الجاسوس المطلوب، أرادت أن تحفظ ماء وجهها بالتوصل إلى تسوية مع محاميه تتمثل في توقيعه على الإقرار التالي: «أنا بيتر أبلتن.. لأبرئ نفسي من طيشي، أتخلى عن عضويتي في الحزب الشيوعي، وأفصح عن أسماء زملائي في الحزب، لكي تسنح الفرصة لهم لأن يفعلوا مثلي»!

هذا مع أنه لم يكن شيوعيا، في يوم من الأيام، ولا يعرف أيا من هؤلاء المذكورة أسماؤهم في الإقرار!

وحول هذه النقطة بالذات يتواصل الجدل بينه وبين محاميه:

- ألا يهم أنني لم أكن، يوما، شيوعيا؟!

- لا تجادل. هذه هي قوانين اللعبة.. لكنها لعبتهم. احترم قوانينهم، وإلا فسيقضون عليك.

- اعتقدت أننا نعيش في بلد ديمقراطي!

- أتعني «إعلان الاستقلال» و»الدستور»؟ إنها مجرد أوراق موقعة لا أكثر، أتعرف ما هي الورقة الموقعة؟ إنها «عَقْد».. وهو ما يعني أنها شيء يمكن التفاوض بشأنه في أي وقت. وقد صدف، هذه المرة، أن لجنة النشاطات غير الأميركية تود إعادة التفاوض معك بشأن العقد، وفي المرة المقبلة سيجري التفاوض مع شخص آخر، وسيكون هناك دائما شخص آخر، أتريد استعادة حياتك؟ اقرأ الشهادة.

تلك هي الخلاصة التي يعرفها أغبى طفل في أصقاع هذه المعمورة المبتلاة بالهدم تحت معاول سياسات أميركا الخارجية.. لكنها صيحة جريئة وضرورية في أسماع الأميركان أنفسهم، وفي هذا الزمن بالذات.

وإذا لم يكن هذا الفيلم قد حقق النجاح الذي يستحقه، فلأن عرضه جاء بعد أحداث 11 سبتمبر مباشرة، حيث كانت النفوس طائرة من الهلع، وحيث اجتهدت الآلة الإعلامية الجهنمية في أن تزرع «مكارثياً» صغيرا في صدر كل مواطن أميركي.

غير أن التغيرات اللاحقة التي عصفت بخطط عصابة المحافظين الجدد، قد أنبأت بزوال السكرة ومجيء الفكرة، وبأن الناس هناك قد أدركوا طول وعتمة النفق الذي حاولت المكارثية الجديدة إدخالهم فيه، خاصة أنها قد بدأت أول ما بدأت بقضم كتلة هائلة من حقوقهم المدنية.

كان فيلم «منتصف الظهيرة» الذي مثله النجم القدير «غاري كوبر» في خمسينيات القرن الماضي، قد وجه هجاء رمزياً للمكارثية في عز سطوتها، لكن لم يدرك مغزاه، حينها، إلا القليل من الناس، أما الآن فإنه يعد من أهم الوثائق الفنية التي تدين تلك الحقبة.

وعلى هذا فإن فيلم «ماجستيك» سيأخذ حقه ومكانته بكل تأكيد، في مقبل الأيام، لأنه لم يكن مجرد إشارة رمزية، بل إدانة واضحة وصارخة كالصاعقة للمكارثية في طبعتها الجديدة ولكل طبعة محتملة منها في المستقبل.

* شاعر عراقي