ثمة مدرستان فيما يتعلق بمعالجة حالات «الاضطراب وعدم الاستقرار» في هذا البلد أو ذاك، في هذه المنطقة أو تلك من مناطق العالم: مدرسة تنادي بالحسم العسكري والأمني، حيث لا مفر من مواجهة «حالة عدم الاستقرار» المعدية والقابلة للانتشار- كالنار في الهشيم- فيما جاورها من بلدان ومناطق، ومدرسة أخرى ترى أن الحسم العسكري والأمني ليس حلاً دائماً أو ناجعاً، خاصةً في البيئات الطبيعية، التي تساعد المتمردين على الكر والفر أمام القوى النظامية، وأنه لابد من المسارعة بمشروع تنموي شامل طويل الأمد وبخطة لكسب «القلوب والعقول» قبل انتشار النار في الهشيم.
حيال «الحيرة» الفكرية بين هاتين المدرستين، لم أجد مناصاً من الاستماع إلى رأي خبير استراتيجي مخضرم درس هذه الحالات وتمعن في دروسها وعبرها، وخـرج بزبدة مخاضها، مما حدث ويحدث في عالمنا المعاصر.قال لي هذا الخبير: في البداية لابد من حسم عسكري أمني، ولكن يجب أن يسير معه في الحال مشروع إنمائي شامل لتغيير واقع الناس، فلا أحد يخرج من بطن أمه وفي يده قنبلة أو ملتف بحزام ناسف، لابد أن «ظروفاً استثنائية قاسية» عاشها وفرضت عليه، ودفعته إلى التمرد الأحمق الذي يؤدي إلى نسفه ونسف الأبرياء الآخرين ممن هم حوله... وحرمانهم من جميع حقوق الحياة التي نُسفوا من أجلها! أو هذا ما ينطبق على الأغلبية، وللطموحات الفردية دورها بطبيعة الحال. لقد وقع الاحتلال الغربي الدولي لأفغانستان، مثلاً، وتم تغيير النظام ومرت، بل ضاعت وهُدرت، سنوات ثمينة دون خطة إنمائية شاملة، ولا هم يحزنون، وعاد الذين تم دحرهم، مستغلين وجود الاحتلال الأجنبي دون تحقيق فائدة للناس، فكثر الحديث، وساد التردد هل يكون الرد بإرسال المزيد من القوات العسكرية، أو الانسحاب وتنفيذ مشروع إنمائي شامل، طويل الأمد، لكسب «القلوب والعقول».و«الحل» الذي تم طرحه بإرسال عشرات الآلاف من الجنود الإضافيين ثم سحبهم بعد سنة ونصف، حل أقل ما يمكن وصفه بأنه حل مثالي ومتفائل. من يضمن أن «الحسم» ممكن أن يحدث بعد هذه الفترة القصيرة، هذه مغامرة غير محسوبة! ولكن لابد من الإشارة إلى أن الاهتمام بتدريب وتطوير القوى الذاتية للأجهزة الأفغانية مسألة تبدو معقولة مع التركيز على أهمية «إصلاح» الحكم الأفغاني ذاته والبدء بتطهيره من الفساد، وجعل السلطة التنفيذية فيه مساءلة أمام سلطة تشريعية.أما مسألة احتلال العراق فمسألة سياسية خلافية ولابد من القول إن نظامه الاستبدادي السابق قد أعطى «المبرر» للمجتمع الدولي لغزوه، حتى لو لم يمتلك أسلحة دمار شامل ولم تكن له علاقة بالإرهاب، وقد دفع الثمن الباهظ شعب العراق بالذات في الحالين قبل سقوط النظام وبعده. والدعم «الإنساني» الكبير المنتظر والموعود بعد الاحتلال لم يأت إلى يومنا هذا!و«المحاصصة» الطائفية والمناطقية والقبلية وضع مدمر وتمهيد للتقسيم، وإذا كان لابد من بقاء العراق، فلابد من العودة إلى مشروعه الوطني الجامع. «... وثمة تجربة تاريخية مهمة في العالم الإسلامي، لابد من الالتفات إليها والتوقف عندها. أعني تجربة ماليزيا، الجميع يتحدثون اليوم بإعجاب عن النظام الفدرالي الليبرالي الذي توصلت إليه سلطنات إسلامية قديمة في ماليزيا، ومازال السلاطين ينتخبون «رئيساً/ سلطاناً» من بينهم ليتولى بروتوكولياً رئاسة هذا النظام الفدرالي الليبرالي بوجود رئيس وزراء قوي في البرلمان الاتحادي يتمتع بأغلبية نيابية منتخبة».وما نسيه الناس أن ماليزيا- التي تتطور اقتصادياً اليوم بعد أن سارت قدماً في تطورها السياسي- استطاعت الوصول إلى هذه الدرجة بعد قتال شرس في غابات المطاط مع الراديكاليين الذين كانوا يريدون تحويلها في الخمسينيات إلى «كوبا آسيوية»... في ظل فورة راديكالية كانت تعم آسيا حينئذ ومعها عالمنا العربي بعد انتصار الثورة الماوية في الصين الشعبية. (ومازال الماويون في نيبال يشلون الحياة العامة هناك!). «لو لم يحدث ذلك «الحسم العسكري والأمني» في غابات المطاط الملاوية، هل كان ممكناً إقامة اتحاد ماليزيا الديمقراطي بعدئذ وإلى يومنا؟».«ومع قيام اتحاد ماليزيا أثار الرئيس الإندونيسي الراديكالي الأسبق أحمد سوكارنو «عاصفة سياسية» في وجهه، معلناً خطته «لسحق ماليزيا» وضمها إلى الجزر الإندونيسية المجاورة، ولكن ماليزيا قاومت تلك «العاصفة» واجتازتها وسارت في طريقها الذي أصبح مثار إعجابنا اليوم»... واليوم تسير إندونيسيا ذاتها في خط الاستقرار والتنمية الذي سارت عليه بقية بلدان المنطقة. وعلينا أن نلاحظ أن جميع القوى الرئيسة هناك- أعني اليابان والصين والهند- «حسمت» خيارها السياسي والاقتصادي، بدءاً بوحدتها القومية كلاً بنهجه الخاص به، قبل أن تنطلق في صعودها.وصمت محدثي قليلاً، ثم أردف: «لقد قامت أوروبا المعاصرة على أساس مشروع مارشال... ولكن متى أمكن البدء بذلك المشروع؟... بعد أن استطاع الحلفاء من الغرب ... ومن الشرق «حسم» الأمر عسكرياً ضد النازية. وبموازاة ذلك فإن مشروع الانطلاقة الاقتصادية التكنولوجية اليابانية لم ينطلق، إلا بعد عملية جراحية بشرية مؤلمة تمثلت في ضرب هيروشيما وناغازاكي بالقنبلة النووية، بالإضافة إلى آلاف الأطنان من القنابل التي ألقتها الطائرات الأميركية على المدن اليابانية الأخرى، الأمر الذي أقنع إمبراطور اليابان بإعلان «الاستسلام» والتخلي عن «الحلم» الإمبراطوري الفاشي لاستعمار الشرق الآسيوي، وذلك بعد أن رأى قطاعات عريضة من شعبه تتعرض للإبادة والمجاعة... (لتصبح اليابان الجديدة بعدها ثاني اقتصاد في العالم). وتوجه إليّ بالسؤال: هل كان ممكناً نجاح «مشروع مارشال» في أوروبا والأوروبيون يواجهون النازية؟ وهل كان ممكناً انطلاق اليابان الجديدة في ظل أحلامها الإمبراطورية الفاشية السابقة، وهي تدفع ضريبة الحرب الباهظة التي بدأتها؟ قلت: «تريـد أن تقول إنه لابد من «حسم» مع المسارعة في طرح مشروع تنموي شامل... ذلك حل يجدر تأملّه!!».* مفكر من البحرين كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
مدرستان في التفكير... لابد من إدماجهما في مدرسة واحدة!
31-12-2009