آمال: قدت قميصي من دبر


نشر في 18-12-2009
آخر تحديث 18-12-2009 | 00:00
 محمد الوشيحي ذات مساء زرتها مع الأصدقاء. شعرت لحظتذاك أنها ارتدت غطاء رأسها على عجل قبل أن تستقبلنا. ارتباكها كان واضحاً. يبدو أنها كانت تنتظرني وحدي فخذلتها. ما أقسى الخذلان على النفس، خصوصاً بين العشاق.

أدركت سر حزن ابتسامتها، وما إن غادر الجميع حتى عدت إليها وحدي، فتهلل وجهها بشراً، وقالت بغنج: ضع رأسك هنا، أشارت إلى فخذها، وحدثني عن أي شيء إلا عن عاداتكم وتقاليدكم، انظر إلى طبلة أذني كيف انفجرت من قصائد الفخر التي ينشدها شعراؤكم عن البطولة والشجاعة والكرم والمجد، وها أنتم أبناء القبائل، غالباً، تنتخبون الجبناء نواباً لكم. وبربك دع عنك كل شيء وحدثني عنك، عن نفسك، عن معنوياتك التي سقطت على أرضية السياسة فتهشمت كالزجاجة، وها أنت تلتقط شظاياها المتناثرة تحت الكراسي لتعيد جمعها وتركيبها، والعرب تقول: «إنّ الزجاجة كسرها لا يُجبَرُ». حدثني عن هذا السواد الذي بدا جليّاً تحت جفنيك. حدثني عن أباطرة الإعلام الذين تجمهروا أمام مبنى مجلس الوزراء وفي يد كل منهم بطاقة التموين.

قلت وأنا أسحب نفساً قوياً من سيجارتي وأحرّك النار التي أشعلتها لتدفئنا: أولاً، الجبن ليس وكالة تمتلكها القبائل حصرياً، وأظنك تابعتِ ما حدث بين التحالف الوطني الديمقراطي وأبنائه وأقربائه، ولاحظتِ كيف انحنت الرؤوس أمام سلطان المصالح باستثناء أسيل العوضي. كأنهم في يوم القيامة، تنكّر كل منهم لأخيه وصاحبته وبنيه، «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ»، فمعذرة يا معشوقتي، الجُبن متاح للجميع، ثم بالله عليكِ، دعي عنكِ حكاية القبائل والعوائل، فما لدينا يكفينا. حدثيني عن التيارات السياسية، عن أي شيء آخر، عن جمالك المتوهج هذه الأيام، عن حرارة أنفاسك وعطرها.

قالت بجدية: «أوافقك، لكن قبل أن نحمل متاعنا ونغادر هذه النقطة، يجب أن تعترف أنكم يا أبناء القبائل جبناء». فانتفضتُ غاضباً وصرخت: «لا تعممي». فصرخَتْ بدورها: «معك حق، الأغلبية منكم جبناء»... فسكتّ ولم أنطق، فقد كانت شفتاي تتألمان تحت أسناني.

سكتنا برهة، ثم لاحت على شفتيها ابتسامة المنتصر وقالت بنبرة مغرورة: ما حكاية كرنفالات النصر التي تحدث عنها الوزير محمد البصيري بعد نجاة رئيس الحكومة من الاستجواب؟ قلت بصوت مترنح، محاولاً إلصاق حروفي بعضها ببعض: يعني تركتِ القلاف وبقية الجوقة وأمسكتِ بخناق البصيري، عجباً لأمرك. على أي حال، البصيري انقلب على حدس، وهذه عادة حسنة انتشرت بين تياراتنا السياسية... ولم أكد أكمل جملتي حتى انطلقت منها جملة لعوب تشبهها: أين ذهب كلامك عن قبيلتك، وعن أنكم كنتم تقتلون الجبناء من أبناء القبيلة، وأن أجدادكم كانوا يتفاخرون أن قبيلتهم «بيور»، نقية لا جبان فيها؟ هنا شعرت بغليان الدماء في عروقي فشددت شعرها وجذبتها نحوي، وألصقت فمي في وجهها وقلت بزفير: وما دخل الشجاعة في تصرف البصيري؟ الحكاية حكاية جشع وتملق، لا علاقة لها بالشجاعة والجبن... فانطلقت كلماتها الهامسة في أذني كالمسامير: وهل يتملق الشجعان يا محمد؟

هنا نفضتُ بشتي ونهضتُ واقفاً، فشدّت أسفل ثوبي وقالت ونظراتها تتسلقني بإثارة: أوتتركني وحدي لليل؟ ألست جائعاً مثلي؟ تعال لنلتهم بعضنا. فجراً، تسللت هارباً، فتنبّهت هي ونهضت تطاردني، وقدّت قميصي من دبر... قاتل الله معشوقتي الصحراء كم تثيرني، كم تطربني تأوهاتها، كم أعشق أنوثتها الجامحة.

وصلتُ بيتي منهكاً، وارتميت على سريري، وكلماتها لاتزال تشاغلني: «خذ ملابسي هذه أعطها بعض ساستكم الرجال، وابتعد أنت عن السياسة وتعال لاعبني وداعبني، وعهداً عليّ، وقسماً سأمنحك الدفء والهدوء والطمأنينة، وسأغدق عليك من الخيال ما يفيض عن حاجتك لكتابة الروايات والقصائد، وسأعيد إليك مفقوداتك... وأولها نفسك».

وتذكرت ردي عليها: لن أنسحب، كي لا تعطيني ملابسك كما فعلتِ معهم، لكنني أعدك، ما إن تتحرر مدينتي، حتى آتيك فاتحاً ذراعيّ، يلجّ صوتي بالغناء:

«يوم ولْد العجوز أذعن ودنّق للنسور ابتسمْت وللسحابة». 

back to top