سقط صدام لكن سلوكياته مازالت فاعلة
ظهرت نتائج الانتخابات العراقية، التي أعلنتها المفوضية العليا للانتخابات، وفازت فيها القائمة "العراقية" بـ91 مقعداً، وائتلاف "دولة القانون" بـ89 مقعداً، و70 مقعداً للائتلاف "الوطني العراقي" الذي يضمُّ الأحزاب الشيعية، كما نال "التحالف الكردستاني" 43 مقعداً، ونتائج هذه الانتخابات لم تكن سارة بالنسبة لي شخصياً، وربما بالنسبة لفئات أخرى من المراقبين والمحللين، لأسباب كثيرة.انتخابات وسط عالم عربي عشائري
كانت تداعيات هذه الانتخابات، وموقف ائتلاف "دولة القانون" متوقعاً، فالعراق ليس السويد، أو الدنمارك، أو هولندا، أو حتى فرنسا.كذلك، كان الجو السياسي قبل هذه الانتخابات وبعدها غير مريح، وعدم الراحة هذا، نعتبره من طبيعة المرحلة التاريخية والسياسية التي يمر بها العراق، وهي فترة "نقاهة سياسية"، مازال العراق يمر بها منذ 2003 إلى الآن، وسوف تمتد.فقد لعب المال السياسي دوراً كبيراً في هذه الانتخابات، كما هي الحال في باقي أقطار العالم العربي والعالم الثالث، في ظل فقر شديد، يسود هذين العالمين بما فيهم العراق "الغني الفقير"، و"المحسن المحتاج"، و"القوي الضعيف". وكما قرأنا، فإن بعض الائتلافات السياسية العراقية، قد هددت بالنار والحديد الائتلافات السياسية المنافسة لها في الانتخابات كما قالت بعض الأخبار، وأن سلوكيات الإقصاء السياسي "حرمان المطلك والعناني وغيرهما من الترشح، وقد كتبنا عن هذا سابقاً، وعارضناه بقوة" سبقت الانتخابات. إضافة إلى الترويع والترغيب، الذي مُورس لشراء الأصوات، من خلال تسليح المجتمع، إلى حد الذي وصل إلى توزيع المسدسات على شيوخ العشائر لكسب الأصوات، وتعرُّض مناطق معينة إلى القصف بالهاونات!انتكاسة "الصحة السياسية" العراقيةكانت صحة العراق السياسية خلال السنوات الأربع الماضية، تتحسن من حين إلى آخر، ولكنها انتكست قليلاً في هذه الانتخابات، وهي انتكاسة خشي البعض تداعياتها التي هي "في السليم" (حتى مساء الأحد 28 /3/ 2010)، رغم إعلان المالكي رفضه جزءا من النتائج، وطلبه إعادة الفرز اليدوي لبعض المناطق المشكوك في صحة فرزها، وهو ما كان متوقعاً منه، كما يمكن أن يكون هذا متوقعاً، فيما لو عُكست نتائج الانتخابات؛ بمعنى حصول ائتلاف "دولة القانون" على 91 مقعداً، وحصول كتلة علاوي على 89 مقعداً، فكان من غير المستبعد أبداً، أن يرفض علاوي هذه النتائج، إلا أن المفصل في انتكاسة "الصحة السياسية" العراقية، تمثلت بالتصريحات النارية والمستهجنة التي أطلقها نوري المالكي زعيم ائتلاف "دولة القانون"، والتي كان أخطرها، وأكثرها اتساماً بالدكتاتورية الصدامية–البعثية السابقة التي حكمت العراق طيلة 35 سنة، قوله عن تداول السلطة السياسية، بعد الانتخابات، بأن السلطة التي في يديه: "لا يستطيع أحدٌ أن يأخذها، حتى نعطيها".ومعنى هذا، ألا أحد يقوى على أخذ السلطة، ولا المالكي يعطيها أصلاً! وهو تصريح شبيه بتصريحات سياسية سخيفة وعقيمة، كان يطلقها صدام حسين، ويقول فيها بأن حكمه، وحكم أولاده، وأحفاده من بعده، بتأييد حزب البعث العراقي باقٍ، لأكثر من خمسة قرون قادمة!ما الذي جرى؟ فما الذي جرى؟ ولماذا لا نرضى بنتائج الانتخابات، التي كانت تتحلّى بقدر ما من الشفافية والنزاهة، بشهادة معظم المراقبين الدوليين ومراقبي الأمم المتحدة؟ فهل نحن الآن، كما قال إمام عبدالفتاح إمام، في كتابه "الطاغية: دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي" من أن ما حدث في الدولة الإسلامية أثرَّ فينا، ولايزال. بل ترسّب في أعماقنا، حتى أصبحنا نُدهش، إن قال لنا أحدٌ، إن هناك ألواناً أخرى من الحكم اسمها "الحكم الديمقراطي". ويكون جوابنا أن الديمقراطية "نظام غربي مستورد"، لا يصلح لنا، ونقول أحياناً إن لدينا مثل هذه الديمقراطية ولكن بأسماء أخرى كالشورى وغيرها؟!وهل موقف نوري المالكي من ضرورة تسليم السلطة بالتداول لغيره، هو موقف الخليفة عثمان بن عفان، عندما دعته المعارضة القرشية للتخلّي عن الخلافة لغيره، فقال كلمته المشهورة، التي أرسى بها مبدأ "الحاكمية"، وقال: "والله لا أخلع ثوباً سربلنيه الله"، معتبراً أن الله هو الذي ولاّه الخلافة، وليس الشعب، وأن الله وحده، هو من يزيحه عن كرسي الخلافة، وهو ما قاله المالكي بلغة اليوم، من أن: "لا يستطيع أحدٌ أن يأخذها، حتى نُعطيها".الانتخابات تربية للسلوك الديمقراطيسبق أن قلنا، إن الانتخابات ليست فقط صناديق الاقتراع ذات الشفافية، وليست فقط تداول السلطة، وليست فقط قبول المساواة بين كل مكونات المواطنين، وليست فقط الإعلام الحر، ولكنها الأكثر من ذلك كله، تربية المواطنين على السلوك الديمقراطي، وبث الوعي الديمقراطي بينهم.فالثورة قد تُسقط طاغية– كما قال كانط عام 1784 في رده على سؤال: ما التنوير؟- ولكنها لا تستطيع أن تُغيِّر من أسلوب التفكير، بل على العكس من ذلك، فإن الثورة قد تُولِّد سوء طوية تُكبِّل الدهماء. وأضاف كانط فيلسوف التنوير: إن التنوير ليس بحاجة إلا إلى الحرية، وأفضل الحريات خلواً من الضرر، هي تلك التي تسمح بالاستخدام العام لعقل الإنسان، في جميع القضايا.فهل ما يجري في العراق الآن هو الحرية؟ وهل العقل الآن في العراق هو المستخدَم؟ وكيف يمكن للمواطن العراقي أن يتربى على السلوك والأخلاقيات الديمقراطية، وهو يرى النُخب السياسية تتطاحن على كراسي الحكم، وتحرم أحداً "أياً كان هذا الأحد" من ممارسة السلطة الشرعية، فيما لو آلت إليه!هل هي بقايا آثار وأوزار حقب سابقة؟هل ما نشاهده ونقرؤه الآن بعد الانتخابات العراقية من تشنجات نفسية، هي بقايا آثار وأوزار حقب تاريخية سابقة، تجرَّع خلالها العراق كأس المرارة والطغيان؟ لا نريد هنا، أن ننبش مسألة زعامة نوري المالكي لـ"حزب الدعوة" (تأسس 1957) العراقي الديني الفئوي، الذي يتبنى الدولة الدينية، واستضافة طهران لهذا الحزب وكوادره طوال فترة مطاردة صدام له، وأمَّنت له المقار، والمعسكرات، والتمويل المالي. ويكفي أن هذه الانتخابات برهنت على رفض العراق الجديد للدولة الدينية، متمثلة بالمالكي، وحزب "الدعوة"، والسيطرة الإيرانية، التي من المحتمل أن تعود لتمويل الإرهاب من جديد في العراق، ضد حكومة علاوي، فيما لو تشكَّلت وحكمت!* كاتب أردني