كان من الطبيعي بعد كتابتي لمقال «الليبرالية والمزورون» أن تأتيني رسالة أو اثنتان بنكهة السب والشتم والتكفير والتخوين، فقد اعتدت على حدوث هذا الأمر كلما كتبت كلاما لا يعجب «محتكري الإيمان وطاعة الرحمن» ممن يظنون أنهم وحدهم من يملك الحق في التحدث في أي شأن من شؤون الدين، لكن الرسالة التي وصلتني هذه المرة كانت زائدة عن الحد و«فالت عيارها بعض الشيء»! ولم يكن لصاحبها اسم لكن عنوانها كان «بن لادن... وبس».

Ad

 وإليكم ما جاء فيها: «السلام على من اتبع الهدى... أقولها لك وأزفها برياح الحب... «الدم الدم... والهدم الهدم» يا عميل صهيون إن لم تكف لسانك القذر عن الإسلام والمسلمين، فسوف تكون عاقبتك كعاقبة أسيادك بأفغانستان الهلاك والذل، واعلم أن المسلمين يقاتلون في سبيل الله... والكفرة والمرتدين من العلمانيين والليبراليين يقاتلون في سبيل الطاغوت... فهنيئا لك العيش مع الطاغوت وهنيئا لنا العيش مع أولياء الله، قبحك الله وأخزاك، والله أكبر والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين!».

إذن، هي رسالة تهديد ووعيد بمصير أغبر ينتظرني! مع ذلك، لم آخذها على محمل الجد، ولم أتمالك نفسي من الضحك على حكاية «عميل صهيون»، عميل صهيون مرة واحدة، يا لطيف اللطف يارب، "طلعت خطير وأنا ما أدري!" المهم، تجاهلت الرد على الرسالة، وكدت أن أنساها!

لكن بعد أيام، حين كتبت مقالي التالي «الليبرالية في القرآن» عاد أخي في الله الأخ «بن لادن وبس» إلى مراسلتي ثانية، هذه المرة كانت رسالته طويلة جدا عنوانها «الرد السليم على مقالك السخيف»! قرأتها كاملة بهدوء وتمعن، وقد هالني كم الأخطاء النحوية والإملائية التي احتوتها، والتي من خلالها ومن خلال الأسلوب الحماسي الغاضب والمنطق الساذج وعملية النقل من الآخرين، أدركت أنني أمام شاب صغير السن وحديث عهد بالتدين والقراءة والكتابة بشكل عام، وقررت أن أجرب حظي وأحاوره بالتي هي أحسن لأبين له وجهة نظري وأبرئ نفسي من تهمة العمالة الصهيونية التي ألصقها بي، وبعثت له برسالة مطولة مفصلة، فبعث لي بمثلها، وتبادلنا الرسائل الإلكترونية على مدى ثلاثة أيام، كنت أقول له تصوراتي وفهمي ورؤيتي، وكان ينقل لي أقوال غيره من السابقين واللاحقين، ورويدا رويدا خفّت حدة كلماته وألقابه لي، وبدلاً من أن أكون «عميل صهيون قد الدنيا"، نزلت إلى مرتبة «مدلس» في الرسالة التالية، ثم إلى «جاهل» في التي تلتها، وأخيرا إلى «ضال» فقط، حتى أنه- بارك الله فيه- دعا لي بالهداية في نهاية الرسالة، واستبشرت خيرا، وحمدت الله حمدا كثيرا، وتوقعت تغيرا أكبر في الرسائل القادمة، غير أنه فاجأني في رسالته الأخيرة بانتكاسة غير متوقعة، بعد أن أعيته الحيلة في هدايتي- حسب مفهومه للهداية- طبعا! فبدأ رسالته التكفيرية بالقول «أنت لست بمسلم»! هكذا... "خبط لزق!"، ثم بين لي فضيلته أسباب سقوطي في اختبار الإيمان الذي أجراه لي، وقرر لي- منذ الآن- أنني سأكون في جهنم مع الضالين المضلين... ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

على النقيض من الأخ «بن لادن... وبس» أتتني رسالة من الأخ «معاذ» وضع فيها قصة منتشرة في الإنترنت زعموا أن صاحبتها صحافية سعودية عملت في جريدة ليبرالية التوجه، وتقوم بنشر غسيل الليبراليين في تلك الجريدة، ورددت عليه بأن هذه الحكاية وإن صحت فهي لا تثبت شيئا، ففي كل مكان هناك الصالح والطالح، ولا يجوز الحكم على فكرة أو نظرية أو عقيدة بسلوك بعض معتنقيها، ومن غير المعقول أن يزعم أحد بأن إمام المسجد الفاسد الذي قام باغتصاب ابنة أخته يمثل الإسلام والمسلمين!

 فبعث لي برسالة جاء فيها: «أخي الفاضل... اعلم رحمك الله أننا نتناقش لكي نصل إلى كلمة سواء... وأن كلامك في ألا نحكم على الجميع صحيح، وأن في المجتمع حالات شاذة لا تمثل إلا نفسها، لكن أريد منك من غير كلافة أن تقرأ هذا المقال «الليبرالية... مذهب هدام يدمِّر العقيدة ويؤيد التفجير والتكفير والفساد» وتعطيني رأيك... وجزاك الله ألف خير».  الفارق هنا كبير كما تلاحظون بين «بن لادن وبس» و«معاذ»... فارق في الأسلوب والألفاظ والنية الطيبة، وهما برأيي يمثلان الخطاب الديني الموجود على الساحة اليوم، معتدله ومتطرفه، خطاب يشتم ويلعن ويكفّر ويزندق ويكيل التهم لكل مخالف، وخطاب يناقش ويبحث عن نقاط الاتفاق قبل الاختلاف، خطاب يهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور، وخطاب يدعو بالصلاح والإصلاح، المؤسف أن الخطاب الأول هو السائد حاليا، وهو من تحتضنه القنوات الفضائية وتفرد له الصحف المساحات الكبيرة لينشر غثاءه بين الناس على أنه يمثل الدين الصحيح وما كان عليه السلف الصالح... وإنا لله وإنا إليه راجعون!