استهدفت ثلاث ضربات في الأسابيع الماضية صميم مكانة الولايات المتحدة في العالم بعد الحرب بشكل مباشر.
تنبئ القرارات التي اتخذتها حكومتا اليابان وبريطانيا العظمى وإقرار قانون الرعاية الصحية المتهالك في الولايات المتحدة بالنهاية الوشيكة لقواعد الولايات المتحدة في الخارج وقدرتها على فرض قوتها، فإن استمرت هذه النزعات، فإن الجيش الأميركي سيخسر رواسخه الاستراتيجية في أوروبا وآسيا، ما يعجّل تراجع الولايات المتحدة المحتمل عن التزاماتها العالمية ويجعل العالم مكاناً أكثر غموضاً وأقل استقراراً.تأتي الضربة الأولى من آسيا؛ فعلى مدى الأشهر الستّة الماضية، سعت حكومة اليابان الجديدة إلى تعديل اتفاق يعود تاريخه إلى عام 2006 لنقل قاعدة جوية تابعة لمشاة البحرية الأميركية من أحد المواقع في أوكيناوا إلى منطقة غير مأهولة بالسكان.مع أنه لم يتم التوصل إلى الاتفاق إلا بعد مفاوضات مكثفة استمرت لعقد من الزمن ومع إدارتين ديمقراطية وجمهورية على حد سواء، اقترحت حكومة رئيس الوزراء يوكيو هاتوياما في المقابل مواقع بديلة للقاعدة، معظمها جوبه بالرفض خلال المفاوضات السابقة ولا يسمح أي منها بالنوع عينه من التدريبات والعمليات الضرورية للجناح الجوي لقوات مشاة البحرية. واليوم يتساءل المسؤولون الأميركيون سراً عما إذا كان الحزب الديمقراطي الياباني الحاكم يريد السماح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها في اليابان بالدرجة عينها، والتي من دونها لن تتمكن الولايات المتحدة من توفير ضمانات الأمن الإقليمي وتشكيل قوة استقرار في آسيا وسط نمو قدرة الصين العسكرية واستمرار الإنجازات النووية في كوريا الشمالية. وبالفعل تساءل الرئيس السابق للحزب الديمقراطي الياباني علناً عما إذا كان الأسطول الأميركي السابع كافياً لتحقيق أهداف التحالف، مثيراً بذلك احتمال انسحاب قوات مشاة البحرية والقوات الجوية الأميركية من اليابان. وفي الجانب الآخر من الكرة الأرضية، خلُصت إحدى لجان الشؤون الخارجية الخاصة التابعة لمجلس العموم البريطاني هذا الأسبوع إلى أنه يجدر ببريطانيا تعلّم قول "لا" لواشنطن والتمتع باستقلالية أكبر، وإلا ستلحق أذىً إضافياً بصورة المملكة المتحدة في الخارج. لكن المثير للقلق بوجه خاص أن اللجنة توصي بـ"مراجعة شاملة" للترتيبات الراهنة المتعلقة باستخدام الولايات المتحدة المنشآت العسكرية البريطانية في الداخل والخارج، منتقيةً قواعد ذات أهمية استراتيجية كبيرة مثل دييغو غارسيا.وبالرد على تقارير تفيد باستخدام وكالات الاستخبارات المركزية مثل هذه القواعد لأغراص تتعلق بتسليم الإرهابيين في الحرب على الإرهاب، تدعو اللجنة الحكومة البريطانية إلى التخلي عن مصطلح "العلاقة الخاصة" الذي يصف الرابط بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاعتراف بشكل أكثر واقعيةً بالطبيعة "المتغيرة دوماً" لهذه العلاقة، والتي قد يفسرها المراقبون بكل ثقة على أنها تباعد إلى حد كبير بين الحكومة البريطانية والبيت الأبيض.أما الضربة النهائية في هذه المعمعة الجيوسياسية فتصدر من العاصمة واشنطن، حيث وسعت كلتا الحكومتين الجمهورية والديمقراطية ميزانية الولايات المتحدة لتبلغ مستويات غير مستدامة، ما يحتّم تراجع ميزانيات الدفاع الأميركية في السنوات المقبلة. ما نظام الرعاية الصحية البالغة قيمته تريليون دولار أميركي والذي تبنّته إدارة أوباما إلا آخر هجوم تتعرّض له السلامة المالية في الولايات المتحدة، ففضلاً عن الهدر المالي بتريليونيات إضافية من الدولارات، فإن مثل هذا الإسراف يؤدي مسبقاً إلى تخفيضات في ميزانيات الدفاع وإلغاء بعض أكثر أنظمة الأسلحة تطوراً، بما فيها طائرة "إف-22" المقاتلة.في وقت بلغت فيه نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة 90% في خلال عشر سنوات فحسب، وبحسب التقديرات الراهنة لمكتب الميزانية التابع للكونغرس، سيتباطأ النمو الاقتصادي أكثر فأكثر وستُخفّض الميزانية العسكرية قدماً بلا شك لتوفير برامج واعتمادات حكومية لا يستطيع الأميركيون العيش من دونها.بنتيجة هذه النزعات الثلاث، ستصدر على الأرجح سلسلة من القرارات من شأنها خفض الوجود العسكري للولايات المتحدة في أنحاء العالم بشكل تدريجي لكنه دائم والحد من قدرتنا على دعم السلام والتدخل عبر العالم. وبينما نستنفد قدراتنا، ستكون الصين بصدد نشر صواريخ باليستية مضادة للسفن أكثر دقةً، وطائرات مقاتلة متطورة، وغواصات لا يكشفها الرادار؛ وستبسط روسيا نفوذها على البلدان المجاورة لها وتحدّث في الوقت عينه ترسانتها النووية؛ وستطور إيران أسلحة نووية، الأمر الذي يؤدي إلى سباق تسلح أو هجمات وقائية في الشرق الأوسط. في ظل ظروف مماثلة، ستتراجع التدفقات التجارية العالمية، وسيتقيد التدفق الحر لرؤوس الأموال، وستوسع الحكومات الأجنبية سلطاتها التنظيمية والاستحواذية ضد اقتصاداتها المحلية من أجل تمويل توسّعاتها العسكرية.يُذكَر أنه على مدى العقود الستة الماضية، كان الاستقرار العالمي مضموناً إلى حد كبير بفضل التزام أميركي مكلف بالحفاظ على قوات تتمتع بقدرة عسكرية فائقة في الخارج، وصقل تحالفات وثيقة مع بلدان استراتيجية مهمّة، وتخصيص جزء كبير إنما غير مرهق من أموال الخزانة الوطنية للحفاظ على قوّة عسكرية لا تُقهر. نادراً ما تحملت البلاد مثل هذه الأعباء لهذه الفترة الطويلة، لكن العقود المتتالية التي شهدت نمواً وتجنّبت فيها الولايات المتحدة الحروب المنهجية أثبتت صوابية المسار. هل هذه الضربات بداية النهاية؟ وهل تشكل الخطة لكيفية تقهقر قوة الولايات المتحدة في العالم أنيناً وخزانة فارغة؟ سيزداد خيار تغيير هذه النزعات صعوبةً في السنوات المقبلة إلى أن نبلغ نقطة اللاعودة، كما حدث مع بريطانيا العظمى وروما. للأسف لن تتمثل النتيجة في تكرار تاريخ القرن العشرين حين تدخلت واشنطن بعد تقهقر لندن، إنما ستكون بلا شك افتتاحية لعقود، لا بل قرون، من انعدام الاستقرار في العالم: الصراع المتفاقم، وتراجع النمو الاقتصادي والابتكار. تلك هي نتيجة السياسات الضيقة الأفق التي تعكس نفعية سياسية، وضعفا أخلاقيا، وإيماناً مثالياً بالأخوية العالمية.لكن لحسن حظنا، على الأرجح، أن دروس التاريخ لم تبطل، وأننا نستطيع أن نقرر مكافحة أفول عصرنا لو أننا نفهم فحسب ما الذي نخاطر بفقدانه؟مايكل آسلين - Michael Auslin* باحث مقيم في دراسة السياسات الخارجية والدفاع في مؤسسة "أميركان إنتبرايز".
مقالات
ثلاث ضربات ضد الوجود الأميركي في العالم
08-04-2010