انحسار الديمقراطيات الوافدة هل انتهت الحفلة ؟!
مازلت على اعتقادي الراسخ أن الديمقراطية «لابد، ويجب، وينبغي!»... أن تكون لها جذورها الاجتماعية الملائمة لتقوم وتنمو وتتطور... وإلا فإنها نبتة في مهب الريح، ويمكن أن تطيح بها أي نسمة هواء، ولا يمكن أن تنقذها النوايا الطيبة، أو حقوق الإنسان، أو الضغوط الخارجية فبالإمكان إصدار دستور يتضمن برلماناً منتخباً... دون تنفيذ.
يسود العالم اليوم شعور كاسح بأن المسيرة الديمقراطية في أماكن كثيرة تعاني تراجعاً لافتاً، وتصدر التقارير والتحذيرات من الهيئات المختصة بهذا الشـأن وبخلاف إدارة بوش، فقد انتهجت إدارة أوباما موقف «تشجيع» الديمقراطية، دون محاولة فرضها مع الاعتراف بخصوصية كل بلد. ولابد في الواقع من «وقفة مراجعة» موضوعية وجادة، إلى أبعد الحدود، لرؤية الأفق البعيد وسط هذا الضباب وهذه الغيوم التي أصبحت تسد الرؤية وتسبب الإحباط للكثيرين، ولابد من واقعية المنهج وموضوعية البحث للتوصل إلى تشخيص مقنع وأقرب إلى الصحة.ومازلت على اعتقادي الراسخ أن الديمقراطية «لابد، ويجب، وينبغي!»... أن تكون لها جذورها الاجتماعية الملائمة لتقوم وتنمو وتتطور... وإلا فإنها نبتة في مهب الريح، ويمكن أن تطيح بها أي نسمة هواء، ولا يمكن أن تنقذها النوايا الطيبة، أو حقوق الإنسان، أو الضغوط الخارجية فبالإمكان إصدار دستور يتضمن برلماناً منتخباً... دون تنفيذ.من جانب آخر، رغم صغر البحرين- مثلاً- فإن التطور الحضاري التنموي الذي مر به مجتمعها منذ عشرينيات القرن المنصرم، يساعد اليوم على نجاح «المشروع الإصلاحي» الذي يقوده ملكها حمد بن عيسى آل خليفة الهادف إلى تطوير سياسي يكمل التطوير الحضاري للبحرين الحديثة. وتستعد البحرين لانتخاباتها النيابية الثالثة بعد أشهر قليلة.***بعد الحرب العالمية الأولى، طالب الرئيس الأميركي في حينه وودرو ويلسون (1856- 1924) المجتمع الدولي بالسعي إلى إقرار حق «تقرير المصير» لشعوب العالم المختلفة ونشر الديمقراطية في سائر بلدانه- وكان من أجندته إبراز دعمه والدعم الأميركي بعامة لـ»عصبة الأمم» التي جاء إلى أوروبا لمباركتها- فلم تثمر دعوته، في ضوء التجربة، إلا حيث كانت للديمقراطية جذورا مترسخة في التربة الاجتماعية، أما حيث افتقرت إلى ذلك، فإنها كانت بمنزلة «حلم ليلة صيف»! وكان حلم الصيف الآخر الذي لم يتحقق انضمام أميركا إلى عصبة الأمم!وثمة أوجه شبه كثيرة بين الرئيس وودرو ويلسون والرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما.فالاثنان جاءا إلى البيت الأبيض من خلفية جامعية، وكلاهما ينتميان إلى الحزب الديمقراطي، إلا أن أهم شبه بينهما هو «المثالية» في الطرح والرغبة الملحة في «الإصلاح». وقد أقنع ويلسون الكونغرس عام 1916 بإصدار تشريعات تحدد: ساعات عمل الأطفال، وساعاته في الخطوط الحديدية، والارتقاء بمستوى التعليم، وإيصال الطرق إلى النواحي الزراعية.ومثل أوباما، بذل وودرو ويلسون جهداً كبيراً وأظهر صبراً عظيماً لتجنب دخول الحرب التي كانت عندئذ ضد ألمانيا وكانت قطعها البحرية تغرق السفن التجارية للحلفاء وعلى متنها أميركيون، لكنه اضطر إلى دخولها ضد الألمان في أبريل 1917م بعدما تمادت ألمانيا في عمليات الإغراق. والمفارقة أنه قبل ذلك التاريخ عاد إلى الرئاسة بشعار: «أبقانا ويلسون بعيداً عن الحرب!» (مثلما قرر أوباما قبل أسابيع إرسال قوات إضافية إلى أفغانستان... تخوض الآن معارك طاحنة!).وأيضاً مثل أوباما مُنح ويلسون جائزة «نوبل» للسلام في ديسمبر 1920، وهو صاحب النقاط الأربع عشرة لإرساء عالم السلام بعد انتهاء الحرب التي طرحها أمام الكونغرس في يوليو 1918. وقد اضطر الرئيس ويلسون للتنازل عن بعض أطروحاته المثالية، ممهداً الطريق لنشوء «عصبة الأمم». لكنه فقد الكثير من رصيده المعنوي في بلاده والعالم كما هو حاصل للرئيس أوباما اليوم وللأسباب ذاتها!... غير أن ويلسون قد أثبت إمكانية تحوله من «أستاذ جامعي» إلى «قائد عسكري»– بعكس ما تقوله السيدة الجمهورية بالين في غمزها لقناة الرئيس أوباما!وكان كاتب هذه السطور قد حدد شروطاً للديمقراطية، كي لا نستخدم المصطلح الديمقراطي ويعني كل طرف أشياء أخرى، في كتابه (العرب والسياسة: أين الخلل، في ص 171). وبعد تلك الشروط، تم التنبيه، في الكتاب المذكور (1998) إلى العامل السوسيولوجي الأخطر: «وهو تحديداً: إذا كانت السلطة والقوى الشعبية- حتى لا نقول المعارضة- تنتمي في أصولها المجتمعية إلى تكوينات وبُنى عصبوية، ولم تتطور اجتماعياً وحضارياً بما يؤهلها لتمثل الديمقراطية واستيعابها، فهل نتوقع منها أن تلتزم بشروط الحد الديمقراطي الأدني؟».ولمن أخافهم هذا الكلام من العرب، فالمسألة ليست مسألة جينات لا مفر منها، إنما هي مسألة افتقار للتطور الاجتماعي والتنموي والحضاري الذي لابد أن يحدث قبل أي تحول ديمقراطي.وباختصار: «فلا ديمقراطية بلا ديمقراطيين، ومن هذه الزاوية تبدو مسألة الإعداد الجماعي للديمقراطية الطويلة الأمد تقتضي أجيالاً من التحول المجتمعي التنموي والتحضيري التقدمي. ولا توجد في التاريخ حلول سحرية، وفاقد الشيء لا يعطيه»... (المصدر المذكور، ص 173).ومصداق ذلك نراه الآن رأي العين في العراق، ومن غير المستبعد ظهوره في مجتمعات عربية إسلامية أخرى (وذلك ما يراهن عليه الآخرون في مواجهتهم للعرب والمسلمين). ولذلك قال الأقدمون، في الفكر السياسي الإسلامي: «سلطان غشوم ولا فتنة تدوم»، حيث لم يكن الاختيار بين الاستبداد والحرية، بل بين الاستبداد و»الفتنة» الدموية! ولهذا قال الإمام علي في نهج البلاغة: «ولابد للناس من إمام برٍ أو فاجر تأمن به السبل... إلخ».وعلينا ألا نتمسك بأي وهم: إن «الإسلام الإلهي» يحمل مبادئ قابلة للتطور ديمقراطياً (بما في ذلك «صحيفة المدينة» المغْفَلة للأسف والتي وضعها النبي الكريم بنفسه!). ولكن «الإسلام التاريخي»، أعني اجتهاد المسلمين في الحكم، لم يحمل «مظاهر» للشورى في الممارسة... ناهيك بالديمقراطية، وهو حديث يطول، وربما كان له موضع آخر.***وعودة إلى أيامنا هذه، فإن مظاهر تقدم الديمقراطية كثيرة، أبرزها انتخاب الأميركيين لرئيس من غير البيض- والمجتمع الأميركي متطور ديمقراطياً منذ زمن- كما تتطور روسيا نحو الديمقراطية تدريجياً، وستأخذ وقتاً غير قصير إلى أن تصل، وفي عالمنا العربي نرى أن انقلاباً عسكرياً حاكماً، كالانقلاب السوداني، يتجه اليوم إلى انتخابات ديمقراطية، بعد عشرين عاماً من غيابها، وتظهر القيادة السودانية الحالية مرونة سياسية تفهم التطور، والمأمول أن تبقى ماسكة بزمام الأمور لأنها إن أفلتت فإن «المكونات السودانية» ستتواجه في وضع آخر لا يختلف كثيراً عن الوضع العراقي.ويقود الملك عبدالله بن عبدالعزيز، عملية تطوير اجتماعي وحكومي لا يخلو من أبعاد سياسية في مجتمع تتوجس قواه المجتمعية من الانفتاح أكثر من سلطاته. وهي «ظاهرة» إن نجحت ستكون تغيراً جذرياً مهماً في المشهد العربي.غير أن ثمة مؤشرات أخرى في عالمنا تشير إلى الاتجاه المعاكس من أبرزها تحفظ الصين، التي تعتبر قوة دولية صاعدة وتمثل حوالي ربع البشرية بثقلها السكاني، حيال الديمقراطية.كما أن انحسار الديمقراطيات في العالمين العربي والإسلامي ظاهرة لا تخطئها العين. وعندما يحل قائد «ثوري» محل أي دكتاتور «رجعي»، فلابد أن يكون مثله دكتاتوراً، لأن الديمقراطيات لا تولد فجأة. هكذا كان لينين بعد القيصر الذي ثار عليه بين أمثلة كثيرة... أما ستالين... فرحمة الله على القيصر!* مفكر من البحرين