الباب المشرع، الباب المفتوح، دعوة للقادم من بعيد. اشارة لدخول الضيف الغريب والمجهول. دلالة على القلب، على انفتاح الروح وسعتها، الباب سُكنى وتجلٍّ.

Ad

الباب المغلق غامض، سري، يلزمه طرقٌ وله جاذبية اغوائية: فرادة الاكتشاف ودعوة غير صريحة للمعرفة، الانسان الاول، الانسان البدائي، سكن في البرية والكهوف. الكهوف لا ابواب لها، لأنها عادة ما تكون مخفية، الانسان الحديث يسكن بين جدران، في عُلب أسمنتية والابواب يلزمها قفل ومفتاح، لكن قبل الباب هناك العتبة، العتبة هي مركز التردد، الحد الفاصل بين الداخل والخارج. العتبة امتحان القلب، العتبة هبة الغزل الى الاقدام. لا ينتبه الساكن الى العتبة ولا العائلة، انما الضيف، المجهول والغريب.

هناك قصص وروايات يلجأ فيها البطل الى واحدة من الاكتشافات المذهلة: التلصص من ثقب الباب. مركز الثقل في هذه القصص والروايات هي تلك الاستيهامات والخيالات الممتزجة بالواقائع، حتى تكاد تكون العين هي البطل، هنا يتم اختراق الباب بأكثر الاساليب سرّية وعزلة. التلصص فكرة مبنية على الفردية. السينما أيضاً مبنية على فكرة التلصص، لكنها تنزع الطابع السرّي عن العالم. انت أمام شاشة او جدار ابيض وهو اشبه بباب مقفل، لكن تلك البقعة الضوئية القادمة من خلفك وانت غارق في الظلمة ستكون هي المفتاح، ستفتح لك بكرم فائض، عالماً فاتناً لا ينتهي، فإذا الأبواب تنفتح أمامك، لتدخل حتى الى غرف النوم واكثر الاماكن حميمية وسرّية، وهكذا يتم انتهاك السّر. هذا ما يحدث ايضاً في الحكايات الشفاهية وفي المرويات. في الف ليلة وليلة، تحذر الحكاية من فتح باب ما. (عادة ما يكون الباب الثالث أو السابع وهما رقمان فرديان). كل الأبواب يمكن دخولها إلّا بابا واحدا. يحتوي التحذير، على الفضول. تقول الحكاية: لا تفتح هذا الباب! لكن الحكاية وبطريقة مواربة ترمي اليك بالمفتاح، انه سؤال المعرفة، لكن لنعد الى العتبة، العتبة أيضاً قد تكون كناية عن الكرم واستقبال الضيف، أو الزوجة. في المدونات التاريخية، تبرز قصة النبي ابراهيم حينما قام بزيارة الى ابنه اسماعيل اثناء غيابه، وكان النبي ابراهيم قد تنكر على هيئة شيخ أو عابر سبيل، لكن زوجة ابنه أساءت معاملته كضيف، فرحل النبي ابراهيم تاركاً له بلاغاً يقول: «غيّر عتبة بيتك فإني لم أرضها» فلما عاد اسماعيل وفهم الرسالة، طلق زوجته، هكذا تحمل العتبة هنا رمزية مكثفة بين الداخل والخارج، بين الالتحام والانفصال. في البيوت العمانية التقليدية، المبنية من الطين والحجارة، عادة ما تكون ابوابها الخشبية المزخرفة صغيرة وواطئة أو هكذا تبدو بعد أن كبرنا، ولكي ندخل من هذه الابواب ينبغي علينا، ان نرسم تلك الانحناءة الصغيرة لرؤوسنا. أميل الى اعتبار هذا الامر نوعاً ليس من الاحترام فحسب بل اشبه بإلقاء تحية الدخول، للبيت وساكنيه، نوعاً من التبجيل وانت تدخل الى مقام آخر، يزداد الامر تهيباً عندما يكون البيت مهجوراً، فأنت في هذه الحالة تلقي التحية الى تلك الارواح الساكنة غير المرئية.

يذكر ساران الكسندريان، ان هوس السورياليين، بالغريب والمدهش، دفعهم الى الاهتمام بفن العمارة، وقد انجزوا في هذا المضمار صرعات معمارية، في منتهى الغرابة، وقد ذهب سلفادورد دالي الى انه «ينبغي للعمارة ان تنتج مدركات حقيقية عن رغبات جامدة». وذهب مارسيل دوشامب 1887-1967 صاحب (المبولة) الشهيرة الى صنع باب شقته، بحيث يمكن فتحه وغلقه في الوقت ذاته، فحين تفتح للدخول الى غرفة النوم، كان الحمام يغلق وحين يفتح الحمام كان الاستوديو يغلق.

لماذا هذا الهوس بالأبواب، ألأن الانسان في الاصل كائن مغلق؟ ثم انفتح له الباب الاول، باب الرحم وعندما خرج الى العالم قام هو الآخر باختراع الأبواب.

من المعروف أن الأبواب تتخذ عند المجتمعات المختلفة طقوساً تكاد تقترب من التقديس أو دفع الشر والأذى. لذلك يحدث أن تصادف تعويذة معلقة على الباب، على شكل كف «كف العباس» أو «كف فاطمة» أو قبضة يد أو قناع أو حدوة حصان. علامة فاتنة وهي في الوقت ذاته حامية البيت.

قلت سابقاً إن الباب المغلق يلزمه طرق. واذا طُرق بابك فأنت تتوقع شخصاً ما، لكن عند سركون بولص في قصيدة قديمة له (آلام بودلير وصلت) يصبح التخييل الشعري اشارة الى ما هو غير متوقع مطلقاً. من القادم الغريب إذن؟

غزالة تأكل الملح على بابي

أي ملح بقي لي ايها الماضي؟