العراق بين سردَين: الطائفية وحوت البعث

نشر في 17-02-2010
آخر تحديث 17-02-2010 | 00:00
 د. شاكر النابلسي أسئلة كثيرة يطرحها المراقبون للحالة المتأزمة العراقية الراهنة، وعلى رأسها:

- لماذا أصبح البعث الآن حوت العراق وبعبعه، ونحن على مسافة زمنية قصيرة من الانتخابات التشريعية في السابع من مارس القادم، حيث سيتشكل وجه آخر للعراق؟ ولو أن هذا الوجه لن يكون مختلفاً كثيراً عن وجهه الحالي، فلكي يتغير وجه العراق الجديد، يحتاج إلى وقت طويل، وإلى تحولات مهمة وجذرية في التركيبة الاجتماعية، والثقافية، والدينية العراقية. أما أن هذه التركيبة مازالت على حالها، فمن أين سيأتي التغيير، لاسيما أن معظم جيران العراق ليس من مصلحتهم التغيير فيه؟ وهم سعداء في أن يروا التطبيقات الديمقراطية الشكلية في العراق، هي الملهاة السياسية الأولى، المتمثلة بهامش حرية في الإعلام، وبصناديق الاقتراع. في حين أن الديمقراطية، لم تكن يوماً هي صناديق الاقتراع فقط، كما هي كذلك في العالم العربي الآن.

 

هل ما زال صدام يحكم من قبره؟

والسؤال الآخر الذي يتردد على لسان المراقبين للحال العراقية اليوم هو:

- هل مازال صدام حسين يحكم العراق من قبره في تكريت، كما يحكم السلف "الصالح" مصائر الأمة العربية والإسلامية من قبورهم الآن، من خلال استحضار آرائهم وفتاواهم في القرون الماضية، في سلوكيات كثيرة؟

ولعل ما أثار هذا السؤال، هو الحكم "المُستغرب" الذي أصدرته "اللجنة التمييزية" بالأمس من حرمان 145 أو أقل قليلاً من الترشح في الانتخابات القادمة، وعزلهم سياسياً، ومنهم ظافر العاني (رئيس جبهة التوافق)، وصالح المطلك (رئيس جبهة الحوار الوطني)، وحسين سعيد (رئيس الاتحاد العراقي لكرة القدم). وقد كان لهذا القرار ردود فعل سلبية قوية- سبق أن حذرنا منها- وعلى رأسها قرار إياد علاوي وكتلته (الكتلة العراقية) الانسحاب من الانتخابات، وإلقاء قنابل عدة على مقار أحزاب علمانية، ورغم اختلافي الشديد منذ سنوات، مع التوجّه السياسي للعاني والمطلك، ورفضي التام لموقفهما هما وغيرهما، من ثورة 2003، فإنني اليوم أدافع بقوة عن حقهما، وحق كل مواطن عراقي في ممارسة حقوقه السياسية الكاملة، مادام هذا المواطن يؤمن بالعراق الجديد، ولا يعمل ضده، وأرفض بشكل قاطع، قرار حرمانهما والآخرين، من الترشح للانتخابات التشريعية القادمة، وعزلهم سياسياً.

 

صدام قضى ولكن أحكامه باقية

هل تذكرون كيف سحب صدام حسين الجنسية العراقية عام 1995 من شاعر العراق الأكبر محمد مهدي الجواهري، وشاعر العراق الحداثي الأشهر عبدالوهاب البيّاتي، والصحافي البارز سعد البزاز رئيس تحرير جريدة "الزمان" العراقية اللندنية، والتي تصدر الآن في العراق كذلك؟

هل تدرون لماذا فعل ذلك صدام حسين؟ لقد قيل إن هؤلاء الثلاثة "خونة" للوطن ولصاحب الوطن وسايسه صدام. وهذه الخيانة تمثلت في حضور هؤلاء مهرجان الجنادرية الثقافي السنوي في الرياض.

ومُنع هؤلاء من دخول العراق، أو حتى الدفن في العراق بعد موتهم، فدُفن الجواهري والبيّاتي في دمشق، وطُورد سعد البزاز في لندن، ولكنه بقي حياً.

لقد كان قرار صدام بخصوص هؤلاء الثلاثة، قراراً فردياً كيدياً مزاجياً، لا يستند إلى محاكمة عادلة، ولا إلى حيثيات قانونية... فتلك كانت دولة الدكتاتورية حينذاك.

سردان: الطائفية وحوت البعث

واليوم، يصدر قرار "المفوضية المستقلة للانتخابات"، بمنع ترشح مجموعة من السياسيين لعلاقتهم السابقة بحزب البعث.

فهل العاني والمطلك وغيرهما، هم الذين سيعيدون العراق إلى ما قبل 2003، أم أن الطائفية، والمحاصصة، وبعض جيران العراق من العرب والعجم، هم الذين يحاولون بشتى الطرق إعادة العراق إلى ما قبل 2003؟ والأسباب في رأيي كثيرة، منها أن النخب السياسية العراقية الموجودة الآن على الساحة العراقية، أضعف بكثير من بعث- صدام (البعصدامي) السابق، الذي مازال فارداً ظله على العراق. فصغار التلاميذ الذين كانوا يحضرون- إجبارياً- المعسكرات الكشفية البعث-صدامية، هم الآن من الشباب، ومازالت شعارات بعث-صدام ترنُّ في آذانهم، وتخترق صدورهم. ومازال طلبة الجامعات الذين تخرَّجوا الآن، والذين كانوا (بعث-صداميين)- في معظمهم- بالإكراه، يتذكرون خطابات البعث الصدامي، وصورة صدام، التي كانت في أول صفحة كل كتاب مدرسي أو جامعي، كما كانت صورته أول ما يظهر على شاشة الإنترنت، وكانت مسابقات الأناشيد، والأغاني، والشعر، والأعمال التشكيلية الفنية، لتمجيد بعث صدام، مازالت ذكرى محفورة في أذهان العراقيين. كما مازالت السيارات الفارهة، والبيوت الجميلة، والساعات الثمينة، والهدايا الأخرى التي خلعها صدام على مادحيه ومبجليه ومؤلهيه، ماثلة في العراق.

 

العراق ليس ألمانيا والبعث ليس النازية!

ومن هنا- وكما قلنا في مقال سابق- فإن البعث ليس "فسيلة نخل" سهلة الاجتثاث، كما فعلت أميركا مع النازية في ألمانيا، علماً أن النازية، مازالت موجودة حتى الآن في ألمانيا، وبعد مضي أكثر من نصف قرن، ولها ناشطون، ودعاة، وأتباع... إلخ. وقبل ساعة واحدة من فجر التاسع من أبريل 2003 كان العراق هو البعث الصدامي، وصدام هو البعث، "الحذاء الضيق على قدم صدام"، كما كان يردد. والبعث الصدامي كان، ومازالت آثاره باقية في كل ناحية وزاوية من العراق، وفي كل نشاط اجتماعي وعسكري وثقافي واقتصادي وتعليمي وطبي وفني وسينمائي وغنائي. ومن يقرأ كتاب مجيد خدوري (العراق الجمهوري، 1974)، وكتاب حازم صاغية (بعث العراق... سلطة صدام قياماً وحطاماً، 2003)، وكذلك كتاب محمد المشّاط السفير العراقي السابق في واشنطن (كنت سفيراً للعراق في واشنطن: حكايتي مع صدام حسين في غزو الكويت، 2008)، يُروَّع، بذهول شديد، من اتساع ظل الطوطم البعثي- الصدامي (البعصدامي)، الذي أصبح كابوساً عراقياً، ومازال كثير من الساسة العراقيين- خصوصاً ملوك الطوائف- حتى الآن يخشونه، ويقضّ مضاجعهم. ومن هنا قلنا، في مقال سابق، إن من يتوهّم في العراق أن "البعصدام" عبارة عن "فسيلة نخل" من السهل اجتثاثها فهو على خطأ كبير، ويرتكب حماقة شنعاء. والساسة الأميركيون- وهم قلة- الذين يريدون تطبيق نظرية الاجتثاث النازي في ألمانيا على البعث الصدامي في العراق، كانوا مخطئين، وجهلة، لأنهم لم يراعوا فوارق كثيرة بين عراق البعث الصدامي، وألمانيا النازية. ومنها فروقات الزمن والمكان والمتغيرات السياسية والموقع الجغرافي والموقف الأوروبي، وفروق الاقتصاد، والثقافة، والدين، والاجتماع، والتاريخ. وسيقعون في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه الإدارة الأميركية السابقة، وممثلها بول بريمر، الذي طبَّق في العراق "النظرية الماكارثية" (نسبة إلى الجنرال دوغلاس ماكارثر الذي كتب الدستور الياباني عام 1945، وفرضه على اليابان، بعد أن حلّ الجيش، وأجهزة الدولة الأمنية والإدارية) دون أي مراعاة لفروقات كثيرة بين اليابان 1945، والعراق 2003.

 

* كاتب أردني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top