الاخلاص طريقاً
يُعد فرانز كافكا (1883 - 1924) Franz Kafka كاتباً إشكالياً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. فهو على الرغم من قصر عمره، 41 سنة، فإنه استطاع أن يبقى حاضراً على خارطة الإبداع الإنساني، في جنس القصة القصيرة والرواية، وأن يكون بشخصه وأعماله، مثار سجالات أدبية لا تنتهي، بين انتمائه إلى اليهودية وإعراضه عن الصهيونية، ومقاصد أعماله وحياته وعلاقاته بالمرأة وبوالده، وأخيراً بقناعاته ووصيته بإبادة كتبة بعد موته، التي لم يستجب لها صديقه المقرب ماكس برود.
ينتمي كافكا إلى الأقلية اليهودية المتحدثة بالألمانية في تشيكوسلوفاكيا، وهو بالتالي تشيكي بحسب المولد والجنسية. وفي كتابه «في مستوطنة العقاب»، يقول المترجم كامل يوسف حسين: «قد يُدهش القارئ العربي، إذا علم أن التشيك يعتبرون كافكا كاتباً فكاهياً، بينما يعتبره صديقه وناشر أعماله ماكس برود ومترجمه أدوري موير روائياً مسيحياً، ولا يتردد جونتر أندريز، مؤلف كتاب «كافكا» الذي يُعد من أقوى الدراسات عنه، في القول إنه كاتب متشكك يطال تشككه نزعة التشكك ذاتها عنده» ص10.تنقّل كافكا في دراسته بين أكثر من دراسة علمية وأدبية، فلقد بدأ بدراسة الكيمياء ثم انتقل إلى دراسة الحقوق، وأخيراً درس الأدب في الجامعة الألمانية في مدينة «براغ»، ولقد عمِل موظفاً في «شركة تأمين حوادث العمل»، لكن، المهم هو افتتان كافكا بالأدب، وتكريسه جل وقته للتفكير بطريقة مبتكرة لنقل عوالم الحياة ولحظاتها ومراراتها إلى الأدب، وهذا ما جعل كافكا نموذجاً خاصاً لا يشبه إلا نفسه، وهذا ما طبع أجواء أعماله بطابع من الغرائبية والكابوسية، لكنها تلك الغرائبية المفتوحة على التأويل الإنساني، وتلك الكابوسية، التي تمثل جزءاً ماثلاً من الحياة، في مختلف بقاع الأرض.لقد عمل كافكا موظفاً في شركة تأمين، وهو كمثل ملايين البشر البسطاء، في أي مكان، كان بالإمكان أن تمرّ حياته القصيرة دون أن يعرف به أحد. لكن موهبته الفذة، وإصراره على كتابة مادة إبداعية لم يسبقه إليها أحد، جعلا منه روائيا وقاصا لغزاً. علماً بأنه ظل متشككا في أهمية هذه الأعمال، لدرجة أنه كان عاجزاً عن إكمالها بالنهايات التي كان يحلم بها، مما دفعه إلى أن يوصي بإعدامها وحرقها بعد موته. وحده الأدب العظيم، رفع اسم كافكا إلى سماوات الدنيا، ووحده الأدب الإنساني النزعة، جعل من كافكا حاضراً إلى ما شاء الله، بسبب أعمال أدبية كرس حياته ثمناً لها، وكأنه كان يدرك قصر عمره الحياتي، فأراد كافكا أن يخلد ذكراه بأعمال تصعب على التجاوز في جنسها كرواية وقصة قصيرة.يذكر المترجم كامل يوسف حسين في مقدمة كتاب «المستوطنة»، بأن كافكا خطّ رسالة لخطيبته فيليسيا عام 1913، جاء فيها: «ليست لدي اهتمامات أدبية، وإنما أنا مجبول من أدب، إنني لست شيئاً آخر، وليس بوسعي أن أغدو شيئا آخر»ص 15.لقد كان كافكا متيماً بالأدب، وكان ولهاً بالفكر، وكان غارقاً بقراءات أدبية وفكرية شغلت عليه عالمه، واستغرقت جل ساعات حياته القصيرة، وكان قبل هذا وذاك متوفرا على موهبة أدبية لافتة، لوّنت حياته وجعلته مسحوراً بالكلمة والأدب، وساقته إلى إخلاص أعمى للكتابة، وربما يكون الإخلاص وحده سبيلاً أساساً لبلوغ المبدع غايته.لي صديق شاب ظل مغرماً بالتعاملات المالية، حتى صارت كل حياته، لكن، حين قابلته قبل فترة أطلّت نظرة مختلفة بعينيه... سألته: «ما أخبار البورصة». أضاءت ابتسامة ملونة وجهه، وهو يقول: «أنا مجنون حب الآن». وأشار إلى فتاة ناعمة تسير إلى جانبه.شيء من ابتسامته مسَّ قلبي، وأرد عليه قلت: «عسى دوم إن شاء الله».