كنت أتمنى منذ فترة طويلة زيارة معرض تشلسي الدولي للزهور، الذي يقام كل عام في الفترة ما بين 25 و29 من شهر مايو، في المستشفى الملكي.

Ad

يعتبر هذا المعرض من أكبر معارض النباتات والزهور في بريطانيا الذي تقوم بافتتاحه الملكة إليزابيث كل عام، بمصاحبة الأمراء والأميرات والطبقة الأرستقراطية الإنكليزية، وبمرافقة الصحافة والمحطات التلفزيونية.

ولحسن حظي تمكنت في هذا العام من مشاهدة معرض تشلسي للزهور لهذا الربيع، الذي حرصت فيه على أن أكون خلاله في لندن، وحصلت على تذكرة في اليوم الـ26 من مايو.

معرض تشلسي في هذا العام أُدخلت عليه أنواع جديدة مستنبطة ومستولدة من زهور ونباتات تُعرض في الحديقة لأول مرة، وهذا هو ما يحدث في كل عام، إذ يتسابق ويتبارى كل من منتجي الزهور وزراع النباتات ومنسقي الحدائق لتقديم الأروع، والأجمل والأحدث، والأكثر غرابة في منتجهم، فهل لك أن تتخيل حجم الجمال المأهول المتباري في العرض كله؟

زهور من كل حجم وكل لون، وروائح «تسطل» الروح من عبير شذاها، وتحتار العين من سطوة الجمال الباذخ في حضوره واكتماله.

أيهما الأجمل في هذا البهاء الطافح على كل ما يُشاهد، وكل ما يُشم، وكل ما يهز الوجدان من عنفوانه.

فبأي قدرة يتمكن فيها المحكمون من تحديد نتائجهم، وكل هذا الجمال يحاصرهم ويلوي عنق أي قرار من قراراتهم.

كيف بإمكانهم تصنيف هذا الحسن كله، الذي يصعب تصنيفه، وتحديده، وتقنينه بوضعه ضمن خانة الأول أو الثاني أو الثالث؟

بالنسبة إلي احترت في الاختيار، فليس من الممكن تصنيف الجمال الرباني المكتمل في آياته، والقافز فوق التصنيف.

الجمال المطلق لا يمكن أن يكون أولاً أو ثانياً أو ثالثاً، هناك جمال يتوقف عند اكتماله، ويختم بحلقة الاكتمال، فلا يجوز بعد ذلك أن يصنف في خانات أو أرقام أو درجات.

لكن الإنكليز شعب يعشق الحدائق، ولا يخلو أي منزل منها، مهما صغرت حديقته، فهي جميلة ومعتنى بها طوال العام، ولها حصة كبيرة من ميزانية الفرد ومن دخله. العين في بريطانيا فعلاً لا تقع إلا على كل جميل، فالثقافة البصرية هي طابع إنكليزي، لذا أصبحت حدائق البيوت الإنكليزية هي الأجمل، والأكثر اعتناء ورعاية في أوروبا.

ولهذا يأتي معرض تشلسي للزهور، ليلبي كل حاجات الإنكليز في تزيين وترتيب حدائقهم، فكل ما يخص الحدائق وتنسيقها، وأنواع زهورها ونباتاتها وبذورها، موجود في هذا المعرض، بالإضافة إلى الأشكال الهندسية الحديثة والمتطورة التي أضيفت إلى تشكيل وتنسيق الحدائق والنوافير الغريبة بأشكال بنائية عصرية، لا تخلو من الفن البصري المريح والأخاذ.

الحدائق في بريطانيا ليست فقط مساحة لغرس الأشجار والزهور كيفما كان، لتسمى حديقة، لكنها فن تشكيلي رائع يقوم على إثراء المشهد البصري وإغنائه بتدريج قامات الزهور وشجيراتها، وتوزيعها ما بين ممرات الحصى والماء والصخور، في تشكيل هندسي مخطط ومدروس، ومصمم من الأساس ليكون فردوساً للروح، وبهرجة ألوان تفرح القلب والعين.

لذا يأتي هذا المعرض ليلبي هذه الحاجة الماسة والأساسية في حياة الإنكليزي، حتى أن الاحتفاء بالمعرض بحد ذاته هو حدث مهم، فالحضور إليه هو فرح واحتفالية مهمة كأنها عيد، الناس في قمة أناقتهم ووفرة تدفقهم، ازدحام كأنه مظاهرة، والحضور من كل الأعمار، كلهم قد جاؤوا لاقتناص حصة من هذه الجنة الفواحة بالنكتار وبالروائح وبالرحيق... ويا ورد من يشتريك؟