ترى إدارة باراك أوباما في استراتيجيها الجديدة للأمن القومي، في بيان يرسله البيت الأبيض إلى الكونغرس من وقت إلى آخر، عملاً في غاية الأهمية، وانفصالاً جذرياً عن فكر سابقتها، لكنها ليست كذلك، فضلاً عن أنها ليست استراتيجية.  

Ad

عادةً، قد لا يبالي أحد بذلك، لأن المستند في النهاية مجرد مستند، والأفعال هي التي تهم، لكن المقلق أن الرئيس الأميركي وإدارته يبدوان مخدوعين بما أصدراه.

لعل حكمي مجحف، لكن للحكم على محتوى البيان، لابد من تجاهل الطريقة التي يُصاغ بها، وهو أمر في غاية الصعوبة، فقد صيغ بنبرة إدارية تستخدم كلمات طويلة، معقّدة وغامضة، لذلك جاء مليئاً بالتكرار والأخطاء المطبعية، مع الكثير من الحشو الكلامي والقليل من المحتوى الفكري... من ثم صيغ مرّةً ثانية.  

تخيّلوا 50 صفحةً تكرر ما يلي: "لمنع وقوع أعمال إرهابية على الأراضي الأميركية، علينا تجنيد قدراتنا كافة في مجال الاستخبارات، وتطبيق القانون، والأمن الداخلي. سنواصل بالتالي دمج وتحسين (مراكز الاندماج) الحكومية الرئيسة في المدن والتي تتمتع بالقدرة على مشاطرة المعلومات السرية".   

كما تعلمون، رفض كثيرون في السابق ضرورة استخدام القدرات في مجال الأمن الداخلي للأمن الداخلي، فكفانا من ذلك المبدأ الخاطئ ولنلاحظ كيف ستتشاطر "مراكز الاندماج" الحكومية الرئيسة في المدن المعلومات في المستقبل. ذلك اختلاف آخر جريء، لأن المقاربة السابقة المتّخذة إزاء مراكز الاندماج المقوّضة على نحو غريب كانت مختلفة تماماً، لكن لحسن الحظ، أن تلك الأيام ولّت.

تلك هي مدرسة تحليل السياسات القائمة على "الإجراءات المناسبة كافة". على المرء القيام بكل ما هو مناسب بطريقة موحّدة، ومعززة، وغير مكلفة ومستدامة، ورفض كل ما هو غير مناسب، أو فوضوي، أو عديم الفعالية أو مُقدّر له الفشل في الوقت عينه.

وفقاً للبيان الراهن، تشتمل أهداف سياسة الأمن القومي التي وضعها أوباما على جميع النتائج المرغوبة. يشكل كبح تغير المناخ أحد مظاهر الأمن القومي، ووفق استنتاج منطقي مماثل، تشمل الموارد المتوافرة كل مظهر من مظاهر سياسته المحلية والخارجية، أي ليس قوات مسلحة قوية واقتصاداً مزدهراً فحسب إنما أيضاً "حق الحصول على رعاية صحية عالية الجودة وقليلة التكلفة". في المقابل، يتضمن الأمن القومي إذن كل شيء ولذلك لا يعني شيئاً.

من جهة أخرى، يقارن معدو الاستراتيجية بين فكر أوباما المستنير وغباء سلفه، لكن نظراً إلى اختلاف إجراءاته بعض الشيء عن إجراءات جورج بوش في أواخر ولايته، تقتصر تلك المقارنة إذن على الحالة الفكرية والتحذلق. لا يحب البيت الأبيض استخدام تعبير "الحرب على الإرهاب" أو "الإرهاب"، لأن الإرهاب، بحسب تفسيره، مخطط وليس عدواً. مع ذلك لايزال بالإمكان القول، لا بل تشدد الإدارة على أن الولايات المتحدة في حرب مع الإرهابيين، المتطرفين العنيفين، وتنظيم "القاعدة" وأتباعه... من الجيد أن الإدارة أوضحت هذا الأمر.

يُذكَر أن أوباما عزز التزام الولايات المتحدة في أفغانستان بقدر بوش، بعد أن حرص على عدم الخلط بين التكتيكات والأعداء، لكن استراتيجيته تعجز عن توضيح الأسباب المنطقية وراء ذلك. يحتفظ أوباما بحق التصرّف بشكل أحادي الجانب، ويستثني دولاً مارقة مثل إيران من وعده المشروط باستخدام الأسلحة النووية رداً فحسب على هجوم بأسلحة دمار شامل. فضلاً عن ذلك، صعّد ضرباته بواسطة الطائرات من دون طيار بشكل متقطع في أرض المعركة، سياسة مشكوك في شرعيتها. في المقابل، يدين التعذيب، كما بوش، لكنه يعتقل الإرهابيين المشتبه فيهم من دون محاكمة. كذلك يعد بإغلاق سجن غوانتنامو، لكن السجن لايزال قائماً.  

بخلاف منتقدين كثر لأوباما، أجد أن هذه السياسات مبرّرة، فالعالم لا يستسلم للنوايا الحسنة، والإدارة تبذل قصارى جهدها في الظروف الصعبة، فضلاً عن أن للنبرة أهميتها، فمن الصواب تشجيع الحلفاء والازدراء بهم، والتزلّف إلى الخصوم وتهديدهم. تمكّن بوش في ولايته الثانية من فهم ذلك بعدما قوّم مساره، ما يجعل من الخطأ القول إن السياسة الأمنية تغيّرت إلى هذا الحد في عهد أوباما.

على صعيد آخر، قد يُنظر إلى البيان بشكل سلبي على أنه منشور في حملة غير جدير بالتحليل. لكن أمام الإدارة خيارات صعبة، وخبرة مدّتها تزيد على العام، للتفكر والتدبر خلاله؛ إن التحليل الاستراتيجي الذي يتضمنه البيان على ما يُفترض ضروري، لكن دعونا نأمل ألا يخلط البيت الأبيض بين تلك المسماة استراتيجية والعمل الذي لايزال عليه تنفيذه.

في هذا السياق، يجب أن تركز الاستراتيجية بشكل أساسي على الأولويات والقيود، يقول البيت الأبيض إنه يتفق مع ذلك، لأن الولايات المتحدة لا تستطيع القيام بكل شيء ولابد من أن يكون لديها شركاء، لكن باستثناء مثل هذه التصريحات الواضحة، يلتزم البيان الصمت حول ما هو ضروري في الأمن القومي، وما هو مرغوب ويمكن تحمل تكلفته، وما هو مرغوب ولا يمكن تحمّل تكلفته. في المقابل، يشير على نحو صائب إلى أن الغايات يجب أن تتوافق مع الوسائل، لكنه يعجز عن موافقتها. وهكذا ستُواصل الأهداف المحقة كافة، وستُستخدم جميع الأصول المتوافرة كافة. وتلك ليست استراتيجية.

وفوق كل ذلك يلوح التحدي الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة: تقبّل فكرة تضاؤل نفوذها. بالنظر إلى البيان، لا تبدي الإدارة استعداداً حتى للتفكير بهذا الأمر. صحيح أن البيان يسلّط الضوء على المصالح المشتركة ويدعو إلى التعاون، إنما وفق المواصفات الأميركية. في المقابل، يشدد على أن الولايات المتحدة ستواصل القيادة، وأن مصالحها ستظل دوماً في المرتبة الأولى. في هذا الصدد، صرّحت وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، الأسبوع الماضي: "لم تضعف قوّتنا لكن علينا فرض قوّتنا بطرق مختلفة".

ماذا؟ ولم تضعف قوتها؟ يتمتع الجيش الأميركي بقوة هائلة لكن القيود المفروضة على استخدام هذه القوّة تشتد أكثر فأكثر. لن يكون التعاون الذي تدعو إليه الولايات المتحدة بعد اليوم حول الشروط التي تمليها. إنها مواضيع مؤلمة بالنسبة إلى أمة جبارة لكنها المواضيع التي قد تبدأ الاستراتيجية المقبلة في معالجتها.

كليف كروك Clive Crook