تريليون نوط خضر!!
تقدر مراجع اقتصادية عالمية ومحلية قيمة المبالغ التي دخلت الخزينة العامة الكويتية، منذ تدفق أول برميل للنفط في أربعينيات القرن الماضي حتى الآن، بـ600 مليار دولار أميركي تقريباً، أي ما يزيد على نصف تريليون دولار من دخل النفط والاستثمارات الخارجية وتعويضات الغزو العراقي ومصادر دخل أخرى، كل هذه المبالغ الضخمة تعود على شعب لم يلامس تعداده عتبة المليون نسمة إلا منذ سنوات قليلة، ولا تتجاوز مساحته 17 ألف كم مربع، 18 في المئة فقط منها معمور، وبقيتها قفار وجزر خربة ومهجورة، وهو مبلغ هائل كان قادراً على فعل المعجزات في بلد بمعطيات الكويت من حيث السكان والمساحة.
هذا البلد بثرواته الضخمة المكتسبة، لم يعش في حالة البحبوحة والرخاء الفعلية إلا لفترات محدودة، فهو لا ينتهي من مشكلة اقتصادية حتى يقع في أخرى، بدءاً من أزمة المناخ الأولى والثانية وحقبة الكساد في التسعينيات- رغم المبالغ الهائلة التي صرفت على إعادة إعمار البلاد بعد الغزو- حتى مشكلة المعسرين وانهيار سوق الأوراق المالية (البورصة) الحالية، وعلى صعيد العمران فإن ما حدث في الكويت من نهضة عمرانية لا يعتبر خارقاً أو متجاوزاً بشكل فارق لما شهدته المنطقة من تطور عمراني حتى على مستوى الدول غير النفطية (سنغافورة - هونغ كونغ - دبي)، فنحن مازلنا نعيش مرحلة جسور ومستشفيات السبعينيات المؤقتة، ولم تساهم المليارات التي جنيناها مثلاً في تحويل «جال الزور» إلى ملاعب خضراء للجولف ومنتزهات قومية ببحيرات صناعية، أو بناء حتى مرافق رياضية دولية ومستشفى عالمي، أو على الأقل تحسين (كرمكم الله) دورات مياه مبنى العيادات الخارجية في مستشفى الأميري الرئيسي في الدولة، التي لا يماثل سوؤها نظيراتها في أفقر الدول في أدغال إفريقيا، وإذا أتى «متفذلك» ليقول إن هذه الأموال أهدرت في الرواتب والأجور، فإن الرد عليه بسيط: لأن أي حسبة مالية لكلفة الأجور من الميزانية العامة منذ نشأتها رسميا حتى الآن لن يتجاوز مجموعها 30 في المئة من مجموع النصف تريليون دولار التي حصدتها خزينة الدولة.ورغم المليارات التي صرفت وتصرف على المشاريع في الفترة الحالية، بتقديرات مبالغ فيها لا نجد لهذه المبالغ أثراً في البلد من انتعاش اقتصادي، فهي تتبخر سريعاً، ورغم ما نشهده أيضاً من عمليات توقيع مشاريع بمئات الملايين من الدنانير بصفة شبه يومية من وزارة الأشغال العامة، ومؤسسة البترول الوطنية الكويتية وشركاتها التابعة، وجهات حكومية أخرى، وكذلك الصفقات المليارية التي تعقدها بعض الشركات الكويتية، فإنها لا تنعكس في الكويت بحركة تجارية نشيطة أو سوق مالي متماسك وقوي، وكأن هذه الأموال توضع في «مشخال» يسربها للخارج على الفور، وهي حقيقة ما يحدث، وهي ظاهرة تؤكد قناعة بعض «الكبار» أن الكويت ليست وطنهم النهائي لهم ولأبنائهم وأحفادهم من بعدهم، ولذلك فهم «يحلبون» البلد لخلق وطن بديل عنوانه رقم رصيد البنك الدولي والعقارات المتناثرة في الخارج ليشعروا بالأمان، وهو في الواقع وهم، ثبت زيفه وعدم جدواه في تجربة الغزو الصدامي في عام 1990. لذلك فإن الـ37 مليار دينار المرصودة لخطة التنمية، التي يعول عليها الكثيرون لإنعاش الاقتصاد الوطني، لن تفعل شيئاً، وسيحتال الكثيرون لإسكانها في أرصدتهم في الخارج، عبر التقديرات المبالغ فيها والعبث بالمشاريع والمناقصات، ولن يتغير شيء في البلد، وتنتهي حالة «المضاربات والصراعات المالية المرضية» حتى يؤمن صدقاً «الكبار» من اللاعبين في البلد بأن الكويت هي وطنهم النهائي ومرقد ومستقر «أنواطهم» وأبنائهم جميعاً، ودون ذلك فلن تتمكن بضعة مليارات من الدنانير من أن تفعل ما لم يستطع فعله أكثر من نصف تريليون «نوط» خَضر أميركي على مدى ستين عاماً سابقة!