التلوث النفسي
نشهد في الآونة الأخيرة انفتاحاً ملحوظاً في التحاور بشأن الأمراض النفسية ومظاهرها وأعراضها، سواء في البرامج الحوارية عبر الفضائيات، أو في الصحف ومنتديات الإنترنت.ولكن يبدو لي أن كل ما يتطوع به الاختصاصيون النفسيون من آراء وتعليقات، لا يخرج عن التنظير البارد واللغو، وإزجاءٍ مُسَلٍّ لوقت البرنامج أو لفراغ الورق والشاشة!
من يعيش في أوساط مجتمعاتنا اليوم يلمس لا شك نسبة ازدياد الأعراض النفسية والسلوكيات المرضية في بيئات العمل والمؤسسات والشارع والأسرة، وفي كل بيئة تضم بين جنباتها مجموعة من الناس تحدث بينهم أفعال وردود أفعال وعلاقات وتواصل. وهذه العلاقات إن لم يتوافر فيها الحد الأدنى من المنفعة والإشباع النفسي السليم، فهي إذن بيئة مريضة تشيع المعاناة والتوتر والضغوط.حياتنا المعيشية اليوم، تكاد لا تخلو من التعامل أو التصادم مع تشكيلة من ذوي الأعراض المرضية، من عدوانيين وسيكوباثيين وعُصابيين ونرجسيين، ومن المصابين بالشك المرضي، والفوبيا بأنواعها، فضلا عن أصحاب الحساسية المرضية المفرطة، ومرضى الوساوس والهلاوس... إلخ. وهؤلاء وإن كانوا جزءاً من تشكيلة البيئة الاجتماعية فإن ازدياد نسبتهم تطرح الكثير من التساؤلات.التساؤل الأول يدور حول دور الطب النفسي وفلسفته العلاجية، والشك في جدوى هذه الفلسفة، إذ ما نراه لا يعدو التنظير والتحليل، والحفر وراء مسببات المرض. مع إشاعةٍ فحواها أن المريض إذا عرف السبب، شفي وتعافى! والحقيقة أن كل اللغو الذي يتفضل به اختصاصيو علم النفس لم يشفِ أحداً. وأن الجلسات النفسية التي لا تخرج أيضاً عن الكلام والحديث، ليس لها غير أثر وقتي ربما. والنتيجة أن العُصابي يظل عُصابياً، والسيكوباثي يبقى سيكوباثياً، والعدواني يستمر في إلحاق الأذى وإشاعة الألم في محيطه وبيئته... وهكذا دواليك.أما التساؤل الثاني فهو عن سبل وأساليب التعايش مع هذا الجو المرضي العام، وكيف يتسنى لأي كان أن يتأقلم مع السيكوباثي أو العدواني أو الشكّاك، في العمل أو المؤسسة أو الشارع أو الأسرة؟ وما مدى تأثير معايشة تلك الأجواء المرضية، بكل ما فيها من تحمّل وتجمّل ومداراة، على كيفية ونوعية الحياة للأفراد المجبرين على مخالطة أولئك المرضى؟ هذا التساؤل قلما يُطرح على بساط النقاش، وقلما يتبرع أحد من العاملين في الطب النفسي بمقاربة هذا الهم العام، أو اقتراح ما يخفف المعاناة. يكثر الحديث في عصرنا هذا عن ملوثات البيئة من غازات وسموم وضوضاء، وتُدبَّج الدراسات والبحوث حول التلوث الغذائي والتلوث السمعي والتلوث البصري.وأعتقد أنه آن الأوان لاعتماد التلوث النفسي ضمن الأخطار المحدقة بالبيئات البشرية، بسبب حجم المعاناة والخسائر المعنوية الفادحة، التي تعوق استمرار الحياة السوية، واستثمارها كما يجب.