هل من الممكن أن يتحلّى العمل التجاري بالأخلاق

نشر في 19-06-2009
آخر تحديث 19-06-2009 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت ثمة أمر جديد يحدث في كلية التجارة بجامعة هارفارد. فمع اقتراب تخرج أول دفعة من طلاب ماجستير إدارة الأعمال منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية، بدأ الطلاب في تعميم قَـسَم يلزمهم بمزاولة أعمالهم «بطريقة أخلاقية»، و»الكفاح من أجل جلب الرخاء الاقتصادي والاجتماعي والبيئي للعالم أجمع»، و»إدارة مؤسساتهم بنية خالصة، واتخاذ سبل الحماية ضد القرارات والسلوكيات التي قد تسفر عن تحقيق طموحات ضيقة ولكنها تلحق الضرر بالمؤسسات والمجتمعات التي تخدمها».

إن الصيغة الجديدة لقَـسَم ماجستير إدارة الأعمال يعتمد على قَـسَم أقدم تبناه في عام 2006 طُلاب كلية ثندربيرد للإدارة العالمية والتي تتخذ من أريزونا مقراً لها. غير أن تبني أشهر كلية لإدارة الأعمال على مستوى العالم لهذا القَـسَم يحمل في حد ذاته مغزى عظيماً. حتى كتابة هذا المقال كان حوالي 20% من طلاب فصل الخريجين في هارفارد قد أدوا هذا القَـسَم.

ولا شك أن هذا من شأنه أن يجعل الساخرين يتساءلون: «ماذا عن بقية الطلاب (80%) الذين لم يتبنوا القَـسَم؟». ولكن هؤلاء الذين أدوا القَـسَم يشكلون جزءاً من تحول أضخم نحو الأخلاق، وهو التحول الذي حدث في أعقاب الفيض الأخير من الكشف عن حالات خيانة الأمانة والجشع في القطاع المالي. والحقيقة أن الاهتمام بدورات أخلاقيات الأعمال التجارية أصبح في تصاعد واضح، وباتت الأنشطة الطلابية في كليات التجارة الرائدة أكثر تركيزاً من أي وقت مضى على حمل الأعمال التجارية على خدمة القيم الاجتماعية بعيدة المدى. كانت أخلاقيات العمل التجاري تعاني دوماً مشاكل تختلف عن غيرها من المشاكل التي تواجه المهن الأخرى، مثل الطب والقانون والهندسة وطب الأسنان والتمريض.

كانت إحدى أفراد عائلتي تعاني مؤخراً مشكلة بالعين، ولقد حولها الممارس العام الذي فحصها أولاً إلى جراح عيون. ولكن الجراح فحص عينها وقال إنها لا تحتاج إلى جراحة ثم أعاد تحويلها إلى الممارس العام. الحقيقة أن هذا ليس أكثر مما قد يتوقعه المرء من طبيب مخلص لأخلاقيات مهنته، طبقاً لتعبير بعض أصدقائي من ممارسي مهنة الطب. وعلى النقيض من ذلك، فمن الصعب أن يتخيل المرء أنه قد يذهب إلى تاجر سيارات فينصحه ذلك التاجر بأنه لا يحتاج حقاً إلى سيارة جديدة. بالنسبة للأطباء، تعود فكرة أداء القسم على التصرف بشكل أخلاقي إلى أبوقراط. ولا شك أن كل مهنة بها الفاسد والمحتال، بصرف النظر عن القَـسَم الذي ربما أداه أولئك الفاسدون، ولكن العديد من العاملين بمهنة الرعاية الصحية يلتزم التزاماً حقيقياً بخدمة مصالح عملائه.

ولكن هل يلتزم مديرو الأعمال التجارية بأي شيء غير نجاح شركاتهم وتكديس المال؟ إنه لمن الصعب أن نزعم أنهم يحترمون أي التزام آخر. بل إن العديد من الكبار في عالم المال والأعمال التجارية ينكرون وجود أي تضارب أو تعارض بين تحقيق مصلحتهم الذاتية ومصالح الجميع. فهم يعتقدون أن يد آدم سميث «الخفية» تضمن أن سعيهم إلى تحقيق مصالحهم الذاتية في السوق الحرة من شأنه أن يعزز من مصالح الجميع. وجرياً على هذا التقليد فقد كتب رجل الاقتصاد الشهير ميلتون فريدمان في كتابه الذي نُـشِر في عام 1962 تحت عنوان «الرأسمالية والحرية»: «هناك مسؤولية اجتماعية وحيدة تقع على عاتق الأعمال التجارية- استخدام مواردها والمشاركة في الأنشطة المصممة لزيادة أرباحها مادامت هذه الأنشطة تتم في إطار قواعد اللعبة المعمول بها، وهذا يعني الدخول في منافسة حرة مفتوحة خالية من الغش والخداع والاحتيال».

وفي نظر المؤمنين الحقيقيين بهذه العقيدة فإن أي محاولة لإلزام مديري الأعمال التجارية بالسعي إلى تحقيق أي هدف غير تعظيم القيمة من أجل حملة الأسهم تشكل هرطقة وبِدعة. ولكن على الرغم مما كشفت عنه الأزمة المالية العالمية من احتيال وتزوير على نطاق واسع، فإن السبب الأساسي وراء الأزمة لم يكن الاحتيال، بل كانت الأزمة راجعة إلى فشل السوق في الربط بين المصلحة الشخصية لهؤلاء الذين باعوا ثم أعادوا بيع قروض الرهن العقاري الثانوي وبين مصالح المستثمرين في المؤسسات المالية التي اشترت هذه القروض. وحقيقة أن الكارثة كانت لتصبح أعظم لو لم تكن الحكومات على استعداد للاعتماد على أموال دافعي الضرائب لإنقاذ البنوك كانت بمنزلة ضربة إضافية موجهة إلى أولئك الذين طالبونا بالثقة في كفاءة السوق غير الخاضعة للتنظيمات.

إن قَـسَم طلاب ماجستير إدارة الأعمال يشكل محاولة للاستعاضة عن نظرة فريدمان إلى المسؤولية الاجتماعية للأعمال التجارية بأمر مختلف تماماً: ألا وهو مهنة الإدارة التي تلزم نفسها بتعزيز الرخاء المستدام على الأمد البعيد للأطراف كافة. وينعكس حس الأخلاق المهنية في تلك الفقرات من القَسَم والتي تلزم كل مدير «بتنمية نفسه وغيره من المديرين تحت إشرافه الشخصي حتى يتسنى للمهنة أن تستمر في النمو والمساهمة في خير ورفاهة المجتمع». وهناك فقرة أخرى من القَسَم تؤكد على مسؤولية كل فرد أمام أقرانه، وهي السمة المميزة للتنظيم الذاتي المهني.

أما عن الأهداف المطلقة لمهنة الإدارة فإنها، كما رأينا، لا ينبغي أن تقل عن «جلب الرخاء الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المستدام لأنحاء العالم المختلفة». ولكن هل يتمكن هذا النظام الأخلاقي حقاً من ترسيخ جذوره في عالم الأعمال القائم على المنافسة الشديدة؟ ربما كان بوسعنا أن نلمح أفضل أمل لنجاح هذا النظام في التعليق الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» ضمن تقرير لها على لسان ماكس أندرسون، وهو أحد منظمي الطلاب: «هناك شعور يتملكنا بالرغبة في أن يكون لحياتنا معنى أكثر سمواً وأن ندير مؤسساتنا من أجل المصلحة العامة». وإذا ما نظر العدد الكافي من رجال الأعمال إلى مصالحهم في هذا الإطار، فقد نشهد نشوء مهنة إدارة الأعمال التجارية القائمة على الأخلاق.

* بيتر سنغر | Peter Singer ، أستاذ أخلاق الطب الحيوي بجامعة برينستون، وأستاذ فخري بجامعة ملبورن. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان «الحياة التي تستطيع إنقاذها: العمل الآن من أجل القضاء على الفقر في العالم».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top