ضريبة جيمس توبين تعود إلى الحياة
طُرِحَت فكرة فرض مثل هذه الضريبة لأول مرة في سبعينيات القرن العشرين بواسطة جيمس توبين، الاقتصادي الحائز على جائزة «نوبل»، معتبراً أن فرض ضريبة على التحركات القصيرة الأجل للمبالغ الواردة والصادرة من العملات المختلفة من شأنه أن يحد من المضاربة وأن يسمح بخلق حيز من المناورة للحكومات في إدارة الاقتصاد الكلي المحلي.
في أواخر شهر أغسطس حدث شيء لم أكن لأتصور أنني قد أرى مثيلاً له طيلة حياتي. الأمر باختصار أن أحد صناع القرار السياسي البارزين في إمبراطورية المال الأنجلو أميركية ذهب بالفعل إلى تأييد «ضريبة توبين»- ضريبة شاملة على المعاملات المالية.والمسؤول المعني هو أدير تيرنر، رئيس هيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة، وهي الجهة الرقابية المالية الأساسية في البلاد. كان تيرنر في معرض حديثه عن مخاوفه إزاء الحجم الذي بلغه القطاع المالي والمستويات الفاحشة التي بلغتها هياكل التعويض قد قال إنه يعتقد أن فرض ضريبة شاملة على المعاملات المالية ربما يساعد في الحد من هذين التهديدين.الواقع أن أحداً لم يكن ليتخيل قبل انهيار الرهن العقاري الثانوي صدور مثل هذا التصريح على لسان شخص كهذا. ولكن صدوره الآن يشكل مؤشراً إلى مدى التغير الذي طرأ على الأمور.طُرِحَت فكرة فرض مثل هذه الضريبة لأول مرة في سبعينيات القرن العشرين بواسطة جيمس توبين، الاقتصادي الحائز على جائزة «نوبل»، والذي دعا إلى «إلقاء بعض الرمال على عجلات التمويل العالمي». كان توبين منزعجاً إزاء التقلبات المفرطة في أسعار الصرف. ولقد زعم أن فرض ضريبة على التحركات القصيرة الأجل للمبالغ الواردة والصادرة من العملات المختلفة من شأنه أن يحد من المضاربة وأن يسمح بخلق حيز من المناورة للحكومات في إدارة الاقتصاد الكلي المحلي.ومنذ ذلك الوقت تحولت الفكرة إلى قضية مثيرة لجدال واسع النطاق بين المنظمات غير الحكومية وجماعات التأييد التي رأت في الفكرة فضيلة مزدوجة تتمثل في الحد من تضخم حجم التمويل وجمع مقدار ضخم من العائدات التي ستساعد في تمويل قضايا أخرى مهمة، المساعدات الخارجية، واللقاحات، والتقنيات الرحيمة بالبيئة، وما إلى ذلك. ولقد أيد هذه الفكرة بعض الفرنسيين (وهو ما كان متوقعاً!) وغيرهم من زعماء قارة أوروبا. ولكن قبل أن يتحدث تيرنر عن هذه الفكرة فما كنت لتجد من يذكرها بأي قدر من الاستحسان سواء في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، المركزين الرائدين للتمويل على مستوى العالم.إن جمال ضريبة توبين يكمن في قدرتها على تثبيط المضاربة القصيرة الأجل من دون إحداث أثر سلبي ملموس على القرارات الاستثمارية الدولية طويلة الأجل. ولنتخيل هنا، على سبيل المثال، ضريبة قدرها 0.25% تفرض على المعاملات المالية كافة التي تتم عبر الحدود. إن مثل هذه الضريبة من شأنها أن تقضي في التو والحال على صفقات اليوم الواحد التي تتم سعياً إلى تحقيق هوامش ربح أقل كثيراً من هذه النسبة، فضلاً عن الصفقات الأطول أجلاً والمصممة لاستغلال الفوارق الطفيفة في الأسعار بين الأسواق.إن الأنشطة الاقتصادية من هذا النوع مشكوك في قيمتها الاجتماعية، وهي مع ذلك تلتهم قدراً كبيراً من الموارد الحقيقية، مثل المواهب البشرية، والقدرة الحاسوبية، والديون. لذا لا ينبغي لنا أن نحزن لوفاة مثل هذه الممارسات التجارية. وفي الوقت نفسه فإن هذه الضريبة لن تردع المستثمرين من ذوي الآفاق الزمنية الأطول أجلاً والساعين إلى تحقيق عائدات ملموسة. وهذا يعني أن رأس المال سيستمر في التحرك في الاتجاه الصحيح على المدى الأبعد. ولن تمنع ضريبة توبين الأسواق المالية من معاقبة الحكومات التي تسيء إدارة اقتصادها إلى حد فاضح.فضلاً عن ذلك فإن مثل هذه الضريبة ستساعد في جمع قدر عظيم من المال بلا أدنى شك. والواقع أن العائدات الناتجة عن فرض ضريبة صغيرة على المعاملات النقدية الدولية تُقَدَّر بمئات المليارات من الدولارات سنوياً. بل إن العائدات قد تكون أعظم إذا ما تم توسيع قاعدة الضريبة، كما أشار تيرنر ضمناً، بحيث تمتد إلى المعاملات المالية العالمية كافة. وأياً كان المبلغ المحدد فمن المأمون أن نقول إن الأرقام ستكون بالغة الضخامة، ولنقل أضخم من تدفقات المساعدات الخارجية أو أي تقدير معقول للمكاسب المترتبة على استكمال جولة الدوحة من المفاوضات التجارية.لقد تعرض تيرنر، كما كان متوقعاً، للانتقادات الشديدة من جانب كبار المصرفيين في مدينة لندن ووزارة الخزانة البريطانية. بيد أن القدر الأعظم من هذه الانتقادات لم يكن في محله. إذ يقول بعض المنتقدين إن فرض ضريبة توبين من شأنه أن يرفع تكاليف التمويل القصير الأمد، متناسين على نحو أو آخر أن ذلك على وجه التحديد هو الغرض من فرض ضريبة توبين.وذهب آخرون إلى أن مثل هذه الضريبة تفشل في استهداف مشاكل التحفيز الأساسية في الأسواق المالية، كما لو كان لدينا بديل فعّال وراسخ لتحقيق هذه الغاية. ويشكو البعض من أن هذه الضريبة من شأنها أن تهدد الدور الذي تلعبه لندن باعتبارها مركزاً مالياً، وكأن هذا الاقتراح من المفترض أن يطبق في لندن فقط وليس على مستوى العالم. كما أشار البعض إلى أن التهرب من هذه الضريبة أمر سهل، وذلك بالاعتماد على المراكز المصرفية في الخارج، وكأن التحدي نفسه لا يمثل مشكلة كبرى بالنسبة للتنظيمات المالية كافة.في كل الأحوال، وكما أشار دين بيكر من مركز السياسة الاقتصادية والبحوث في واشنطن، فهناك العديد من الطرق المبتكرة التي قد تمكننا من جعل التهرب من ضريبة توبين أمراً أشد صعوبة. فيرى بيكر أننا إذا منحنا العاملين في مجال التمويل 10% من الإيرادات التي تتمكن الحكومة من تحصيلها نتيجة لإبلاغهم إياها عن رؤسائهم المتلاعبين فإن هذا من شأنه أن يشكل حافزاً لمراقبة الذات.إن الدور الذي تعجز ضريبة توبين عن القيام به هو المساعدة في علاج الخلل الأطول أمداً الذي تعانيه الأسواق المالية. فهذه الضريبة ما كانت لتمنع اختلال الميزان التجاري بين الولايات المتحدة والصين. وما كانت لتفلح في منع تخمة الادخار العالمي من التحول إلى قنبلة موقوتة بالنسبة للاقتصاد العالمي. وما كانت لتحمي بلدان أوروبا وغيرها من بلدان العالم من فيضان أصول الرهن العقاري السامة التي صدرتها إليها الولايات المتحدة. وما كانت لتثني الحكومات عن إصرارها على تبني سياسات نقدية ومالية غير قابلة للاستدامة وممولة بالاستدانة من الخارج.ولعلاج كل هذه المشاكل سنحتاج إلى علاجات مالية واقتصادية كلية أخرى. ولكن فرض ضريبة توبين يشكل نقطة انطلاق جيدة إن كنا راغبين في بث رسالة قوية بشأن القيمة الاجتماعية التي يشكلها «نادي القمار» المعروف باسم التمويل العالمي.* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي بكلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد، وهو أول متلق لجائزة ألبرت و. هيرشمان التي يقدمها مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان «اقتصاد واحد والعديد من الوصفات: العولمة، والمؤسسات، والنمو الاقتصادي».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»