الجهاد بالأنفاق في ظل الحصار

نشر في 19-07-2010
آخر تحديث 19-07-2010 | 00:01
أصبحت «الأنفاق» هي المعابر الرئيسة غير الرسمية والبديلة عن المعابر الرسمية، فهي تمثل اليوم «رئة غزة»، وقد زاد عددها بشكل كبير بعد سيطرة «حماس» على غزة، وتشديد الحصار، ويقدر عددها بـ900 نفق، يعمل فيها أكثر من 5000 شخص.
 د. عبدالحميد الأنصاري بعد المحاولة التركية لكسر الحصار على غزة، والعدوان الدامي على قوافل الحرية، ومقتل 9 من النشطاء الأتراك، وما أضافه من رصيد سياسي وإعلامي للدور التركي في المنطقة، تداعت جهات ودول إلى تقليد النموذج التركي، أولاها: إيران التي أعلنت إرسال سفينتي مساعدات بمرافقة قوات الحرس الثوري، لكنها سرعان ما تراجعت حين رأت العين الإسرائيلية الحمراء، وما إن هدأت الإثارة الإعلامية حتى أعلنت تنظيمات لبنانية عزمها إرسال سفينتي مساعدات: سفينة "مريم" للناشطات وسفينة "ناجي العلي" للنشطاء، وقامت حملة إعلامية ضخمة تروج لهما، وتبارت الشخصيات المشاركة في إدلاء التصريحات عبر مختلف وسائل الإعلام وسرعان ما انقشع الغبار الإعلامي لنتبين أن سفينة مريم "وهمية" وأن السفينة الأخرى قابعة في ميناء طرابلس.

 آخر المحاولات تسيير "مؤسسة القذافي للتنمية" التي يترأسها المهندس سيف الإسلام، سفينة باسم "الأمل" تبحر من ميناء بجنوب اليونان إلى غزة، وتحمل المساعدات، وتهدف إلى تحدي الحصار الظالم، إذ ظل الإعلام يتابع مسيرة السفينة وهي تمضي قدماً إلى غزة رافضة أي تغيير في مسارها إلى ميناء العريش، بحجة "لو كان الهدف ميناء العريش لكنا جنبنا أنفسنا الوقت والجهد ووفرنا المال"، واستمرت السفينة مبحرة غير عائبة بالتهديدات الإسرائيلية.

 وأعلنت ليبيا حظراً على رحلات الطائرات الخاصة خشية إقدام نجل الزعيم الليبي الانضمام إلى الناشطين على متن السفينة، حتى فوجئنا بسفينة الأمل ترسو بميناء العريش، وتفرغ حمولتها هناك لتنقلها الشاحنات إلى غزة، ويصرح سيف الإسلام بأنه عقد صفقة مع الحكومة الإسرائيلية يتم بموجبها إعادة عملية الإعمار في غزة، وستسمح إسرائيل بدخول مواد البناء عبر رفح المصرية.

 هذه خطوة إيجابية، لكن اللافت تغير لهجة الخطاب الذي كان متحدياً، إلى خطاب ينتقد الأصوات المعارضة للصفقة، والتي كانت ترى ضرورة المواجهة المسلحة، فسارعت المؤسسة إلى إصدار بيان تقول فيه: "إننا نرد عليهم بالقول إن ذلك لم ولن يقدم للشعب الفلسطيني أي شيء، إن ذلك الطلب ينبغي توجيهه إلى الجيوش العربية وليس إلى سفينة شحن بسيطة ليس عليها إلا مواد غذائية وشباب متحمسون".

وأضافت– في خطاب نادر في تاريخ المزايدات العربية– "إن كل من يعنيه شأن الشعب الفلسطيني ينبغي أن يعمل بكل الطرق الممكنة لإنجاز الغايات، لا أن نتخذ من معاناتهم أداة لتحقيق مكاسب"، ما انتهى إليه هذا البيان في رفضه للمزايدات السياسية هو ما يؤكده كل المعنيين بالشأن الفلسطيني الرافضين لأساليب "العنتريات" و"التدمير الذاتي" عبر المواجهة غير المتكافئة.

 وتوصيل المساعدات إلى الشعب المنكوب بالاحتلال، له أساليب عديدة، أكثر فاعلية وجدوى من الحملات الاستعراضية التي تخدم أصحابها بأكثر من أهدافها المعلنة، وبطبيعة الحال نحن لا نشكك في صدق الدوافع الإنسانية ولا نبل المقاصد، لكننا نخشى توظيف العمل الإنساني لخدمة أهداف سياسية تجني عليه، فالعمل الإنساني ليس بحاجة إلى استعراضات إعلامية وتصريحات صاخبة متحدية وشعارات لا رصيد لها، فمن يريد تخفيف المعاناة عن أهالي غزة يستطيع أن يفعل الكثير، دون تسيير قوافل استعراضية، ودول عربية وغربية عديدة تعمل في صمت وتقدم المساعدات اللازمة.

فمصر على سبيل المثال قدمت ومازالت تقدم الكثير لغزة ومن دون استعراض إعلامي، ومع أنها الأكثر تعرضاً لحملات التشكيك والاتهام والتجريح إلا أنها هي التي تقوم، في النهاية، بالدور الفعلي في توصيل المساعدات، وكل الجهات التي تعلن قوافل المساعدات ينتهي بها الأمر إلى مصر.

 السؤال المغيب في هذا السجال: رفع الحصار الظالم، مسؤولية من؟! لا جدال في أن المسؤولية الكبرى لإسرائيل، ولكن ماذا عن حماس؟ وما دورها في إطالة أمد الحصار؟ لا أحد من أصحاب الاستعراضات طالب "حماس" بأن تكون واقعية في موقفها من المحاولات الدولية والعربية لرفع الحصار، فقد رفضت "حماس" منذ البداية قبول اقتراح بوضع المعابر تحت إشراف السلطة الفلسطينية مقابل فتحها، كما رفضت فتح المعابر مقابل إطلاق شاليط إضافة إلى تحريرالمئات من الأسرى الفلسطينيين، كما رفضت المصالحة الفلسطينية التي تشكل الحل الحاسم لرفع الحصار كاملاً.

 وعلى الرغم من كل الجهود المصرية والعربية، فمازالت "حماس" جامدة في موقفها، فلا هي قادرة على القتال ولا هي قادرة على كسر الحصار، والسؤال الحيوي هنا: من المستفيد من الحصار؟! إسرائيل هي المستفيد الأكبر لتحقيق 3 أهداف:

 1- منع تهريب السلاح وشل يد "حماس" والفصائل في إطلاق الصواريخ.

 2- تحويل القضية الفلسطينية إلى مجرد قضية رفع أو كسر حصار لا قضية شعب محتل وعدوان ظالم.

 3- تكريس الانفصال بين القطاع والضفة، لكن في الجانب الآخر الفلسطيني، هناك أيضاً مستفيدون، أولهم حكومة "حماس" التي تستفيد من فرض الضرائب على تجارة الأنفاق.

 أصبحت "الأنفاق" هي المعابر الرئيسة غير الرسمية والبديلة عن المعابر الرسمية، إذ هي تمثل اليوم "رئة غزة"، وقد زاد عددها بشكل كبير بعد سيطرة "حماس" على غزة، وتشديد الحصار، ويقدر عددها بـ900 نفق، يعمل فيها أكثر من 5000 شخص، والمستفيد الآخر من الحصار وهم تجار الأنفاق من الطرفين الفلسطيني والمصري، هؤلاء لا يسعدهم رفع الحصار لأن تجارتهم ستبور!

 تجارة الأنفاق، تجارة مربحة جداً ومعظم حاجيات القطاع من المواد الغذائية وحليب الأطفال والملابس والسلع والأدوات الكهربائية وقطع غيار السيارات، بل السيارات، يعتمد على الأنفاق وعملها، وبالرغم من أن للأنفاق ضحايا بالمئات سنوياً بسبب القصف والتصدع فإنها مصدر الأمل الوحيد الذي يخفف معاناة الغزاويين، ويمنع حدوث كارثة كبرى في ظل الحصار الإسرائيلي الخانق، وهذا ما جعل "حماس" والجماعات المتحالفة، تنتقد مصر لإقامتها الجدار الفولاذي، لذلك أفتى بعض المشايخ بتحريم هذا الجدار، وهناك من رأى وأفتى بأن العمل في الأنفاق والتهريب عبرها، نوع من الجهاد، سماه "الجهاد بالأنفاق" في ظل الحصار وغلق المعابر!

 وقد ناشد المجلس التشريعي الفلسطيني، مبارك، التدخل لوقف الجدار، وهو بدوره صرح بأنه "لن يسمح بتجويع الشعب الفلسطيني تحت أي ظرف"، ورغم كثرة ما يقال إن مصر تمنع التهريب وتلاحق المهربين وتسعى لتدمير الأنفاق، فإن الحقيقة غير ذلك تماماً.

 وقد زار الصحفي الأميركي "نيكولاس كرستوف" هذه الأنفاق، ووصف مشهاهداته في مقالة نشرت في "واشنطن بوست" قال فيها: "يتميز النفق بتهوية وإضاءة جيدتين، بجانب حجمه الكبير بما يكفي السير بداخله مع جر عجلة يد مليئة بالسلع، وفيه أسرة متحركة تحمل عبوات من الإسمنت يقوم فريق عمل على الجانب المصري بدفعها إلى الجانب الآخر، حيث يتولى الفريق الفلسطيني تحميلها على الشاحنات، ويعمل النفق 24 ساعة في اليوم". ويضيف "شاهدت عدة مداخل لأنفاق يبلغ من الضخامة ما يكفي لقيادة سيارة بداخله".

وقد حدث بالفعل أن المهربين قبل أسبوعين استطاعوا تهريب 40 سيارة كانت تزف عريساً في عملية خادعة للشرطة قبل أن تتنبه وتقبض على سيارتين! ويستغرب الصحفي من ألا أحد اعترض على وجوده بجانب الأنفاق رغم علمهم بأنه صحفي أميركي وسينقل مشاهداته للإعلام، لكن الأغرب قوله: إن أصحاب الأنفاق يشعرون بالفزع من تخفيف حدة الحصار مما سيترتب عليها تجميد عدد كبير من الأنفاق!

ويختم الصحفي مقاله بأنه يتمنى أن يرى المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون هذه الأنفاق وما يجري فيها، ليدركوا أن الحصار أثمر نتائج عكسية للأهداف المرجوة، إذ جاءت لمصلحة "حماس" فعززت من سلطتها وتمويلها عبر الضرائب والوظائف، كما زادت نقمة الغزاويين تجاه إسرائيل، ويبقى أن نقول: إنه بعد صفقة "الأمل" الليبية-الإسرائيلية ستكون مصر الراعي الرئيسي للبدء بعمليات إعادة إعمار غزة، وسيكون دورها محورياً في تأمين وتوصيل كل المساعدات المرسلة إلى غزة.

 * كاتب قطري

back to top